بالشمع الأحمر

استثمار الوباء!!

إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى

صعد الشيخ إلى المنبر. تأمل وجوه الناس وقد استضافت ملامح رعب يتزايد يوما بعد آخر، هو نفسه كان يشعر بالخوف، فالوباء اجتاح البلاد، وحصد الآلاف دون أن يُفرّق بين أمير وخفير. جلس المئات بالمسجد ينتظرون من الشيخ كلمات تساعد فى طمأنتهم. شعر بجسامة المسئولية، صمت قليلا ولم يلبث أن ردّد كلمات سبق أن جهّزها، وطلب من الجميع أن يعودوا إلى بيوتهم، ويستغفروا الله ويتوبوا من ذنوبهم، لأن المرض المستشرى غضب من الله. وفى اليوم التالى زادت معدلات انتشاره والتهم أرواحا أكثر.
طقس تكرر كثيرا على مدار التاريخ، مع استبدال الشيخ بكاهن أو حاخام، غير أن المشهد السابق تحديدا يرتبط بواقعة محددة، هى الموت الأسود الذى اجتاح العالم فى القرن الرابع عشر، وحصد ثلث أرواح الأوروبيين. عادة ما يستحضر البعض هذه الأزمة عند كل وباء جديد، لكن أحدا لم يسأل عن مصير المصريين وقتها، فتركيز معظم المؤرخين ينصب على أوروبا، ويأتى ذكر آسيا عرضيا بوصفها منطقة تفريخ المرض! بينما نجت أمريكا على الأرجح، لا لأن سكانها لم يرتكبوا ذنوبا تستحق العقاب، بل لأنها لم تكن معروفة فى ذلك الزمن، مما حماها من زوّار ينقلون إليها العدوى.
مشهد البداية وقع فى الجامع الأزهر، وبطله شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقينى، الذى ألقى خطبة الجمعة، فى الأيام الأولى لاجتياح الطاعون مصر خلال حكم السلطان حسن، وهو الوباء الذى ذكر المؤرخ ابن إياس أن ذروته كانت فى أوروبا، ورغم أن المؤرخ الشهير يذكر أنه استمر سنوات بعدها، إلا أنه لم يورد ذكر أى خبر عنه عند رصده لأحداث الأعوام التالية، غير أن ما أورده عن أيامه الأولى مثير للفزع، فيشير إلى أن الفناء قد انتشر، وتجاوز الحد فى شهرى شعبان ورمضان، حتى أن القاهرة كانت تشهد يوميا خروج نحو عشرين ألف جنازة، وفى كتابه» بدائع الزهور» قدّر وفيات الشهرين بحوالى تسعمائة ألف إنسان. وأعتقد أن ابن إياس مال كعادته للمبالغة، فالعدد الذى ذكره لا يتناسب مع تعداد سكان القاهرة فى ذلك الزمان، الذى يُقدره البعض بنحو 600 ألف نسمة، لكن الثابت أن الضحايا تساقطوا بالجملة، حتى أنه قال:» ولم يُسمع بمثل هذا الطاعون فيما تقدم من الطواعين المشهورة».
لم يمر الغالبية العظمى منا بظروف مماثلة، لكنى أزعم أن الأزمة هذه المرة أكثر ثقلا مما عاشه جدودنا، فقد ساهمت الفضائيات فى» تصنيع الرعب»، عبر فيديوهات تجعلنا نتابع على الهواء توحّش الفيروس، مما جعل العالم ينغلق على نفسه، بعد أن انفتح بالكاد عبر عقود مضت، ولم يكتف باكتشاف ذاته بل امتد إلى الفضاء الخارجى، ثم جاء» كورونا» لتنغلق الحدود، ويتحول الكوكب إلى مستوطنات بشرية متقوقعة على ذاتها، لكن التناقضات البشرية أثبتت حضورها، فرغم الحظر والحذر، نشطت» بكتيريا» الرسائل سابقة التجهيز، وامتلأت مواقع التواصل والفضائيات بكائنات طفيلية، تبحث عن الشهرة حتى الرمق الأخير من حياتها، بحثا عن نقرة إعجاب أو عدد أكبر من المشاركات والمشاهدات، لينضم هؤلاء إلى غيرهم من سماسرة الأزمات، ويعيدوا إلى الذاكرة طائفة منقرضة كان يُطلق عليها وصف» أثرياء الحرب».
فى العصر المملوكى وظّف الأمراء الطاعون غالبا لخدمة مؤامراتهم، وفى زمننا الحديث استمر تجار الأزمات فى استثمار الوباء، ليُثبت بعض البشر أن الفيروس يبدو بجانبهم.. مجرد كائن أليف!!