يوميات الأخبار

أمريكا الضاحكة.. زمان

طاهر قابيل
طاهر قابيل

«أغرب ما لاحظه صاحبنا أن أمريكا لا تستقر على حال فهى تهوى التغير والتبديل ففى كل عام يتغير شكل السيارة والتليفزيون والعمارة».

 زار صاحبنا أمريكا 62 مرة.. زارها شابا وشيخا وهو مفلس وعندما كان يستطيع الإقامة فى أفخم فنادقها.. عاش بها تضحك وتعبس فى سنوات الأزمة وعصور الرخاء.. ورأها وهى فى سن الشباب وعندما أصبحت عجوزا تملأ وجهها بالمساحيق.
 أسئلة غريبة وعجيبة


الثلاثاء:
 عندما سافر صاحبنا إلى الولايات المتحدة الأمريكية أول مرة كان يتصور أن كل فتاة ملكة جمال فاكتشف أن بها الغزال والقرد وغصن البان وشجرة الجميز وليس كل رجل صاحب ملايين.. كانت أمريكا فى زيارته الأولى تلهو وتبتسم وتضحك أشبه بشاب مرح ورث ثروة طائلة لا يعرف كيف يبعزقها.. كان الوصول لأمريكا صعبا.. إذا ذهبت إلى القنصلية لتطلب تأشيرة خيل إليك أنهم يسألونك سؤال الملكين يقدمون لك ورقة كبيرة الحجم من ثمانى صفحات فيها ألف سؤال وسؤال لا يخطر على البال.. وإذا انتهيت من الإجابة على الأسئلة الغريبة والعجيبة عرضوك على الطبيب الذى يفحص كل جزء من جسمك وتحقن بدستة من الأمصال والحقن ضد كل أنواع الأمراض والأوبئة.. وبعد أعوام تحسنت الأحوال واختصرت الأسئلة إلى أربع صفحات وحلت مكان الصفحات المختصرة عشرات الأسئلة الأخرى وكفت أمريكا عن الضحك وأصبحت عابسة جامدة.
 كانت الإجراءات الاحترازية التى اتخذتها الحكومة المصرية لمواجهة «الفيروس القاتل» فرصة لى لإعادة النظر فى مكتبتى بالمنزل.. وعثرت بأحد الأرفف حولى على 20 كتابا أهدانى إياها أستاذ الأساتذة الكاتب الكبير مصطفى أمين بخط يده.. ومعظمها إلى تلميذى طاهر قابيل ومن بينها كتابه الأول الذى يحمل عنوان مذكرات طالب مفلس فى الولايات المتحدة.. «أمريكا الضاحكة.. زمان» والذى تمت طبعته الأولى عام 1944 والثانية عام 1980 وكتب فى مقدمته أنه ليس كتابا وإنما «ريبورتاج» صحفى للحياة الضاحكة التى كانت تعيشها أمريكا قبل الحرب ـ يقصد الحرب العالمية الثانية ـ وأنه لم يحاول أن يجعله برهانا على تمكنه من اللغة وضلوعه من النحو والصرف والإعراب.. فلم يستعن بألفاظ ضخمة مغمورة فى القواميس بل لجأ إلى أسلوب صحفى سهل يؤمن بأنه أسلوب النشاط والحركة ونحن فى عصر تحرك كل ما فيه حتى الألفاظ.. «مصطفى بيه» - رحمة الله عليه - أهدى كتابه إلى أخيه على أمين «السندباد البحرى» الذى كان معارضا فى أن يسافر إلى أمريكا وأن يخرج كتابا وأن يشتغل بالكتابة والصحافة.. وختم الإهداء بابتسامته وسخريته المعهودة «ولعل القارئ سينضم إلى أخى بعد انتهائه من قراءة هذا الكتاب!».


ناطحة سحاب مكان الكوخ
الجمعة:
 أغرب ما لاحظه صاحبنا أن أمريكا لا تستقر على حال فهى تهوى التغير والتبديل ففى كل عام يتغير شكل السيارة والتليفزيون والعمارة فكثيرا ما زار شارعا فى نيويورك فوجده مخصصا لأكواخ الفقراء والغلابة وأصحاب الدخل المحدود ويعود فى العام التالى ويجد الشارع القديم قد اختفى وكأن الأرض انشقت وابتلعته وحل مكانه شارع جديد وناطحات سحاب ضخمة مكان الأكواخ الصغيرة ومحلات أنيقة واسعة مضاءة بأنوار النيون مكان الدكاكين التى كانت تبيع السجق والملابس القديمة «الروبابيكيا».. وناطحات السحاب يلعبون بها كالمكعبات التى يلعب بها الأطفال فهذه عمارة من 20 طابقا يهدمونها ليبنوا 40 طابقا.. ولا تكاد تقوم العمارة وتمتلئ بالسكان والمحلات التجارية حتى يقررون هدمها وبناء عمارة من 60 طابقا.. فسرعة الأمريكان فى بناء العمارات أشبه بالمعجزات فبعض المهندسين استطاعوا أن يبنوا طابقا كل 60 دقيقة.. فالطريقة هى أن يبنوا الطابق كله على الأرض ويفرشوا الغرف ويمدوا إليها أسلاك الكهرباء ومواسير المياه ويضعوا على نوافذها الستائر ويعلقوا الصور الفنية على الجدران ثم يرفعوا الطابق كله بأوناش ضخمة ويضعوه أعلى العمارة ثم يجيء العمال ويربطون هذا الطابق بالمواسير وقطع الأسمنت.. وهم أحيانا يبدأون بتركيب المصاعد ثم ينقلون إليه كل ما يحتاجونه من طوب وأسمنت وحديد ثم الأبواب والشبابيك.. وكثيرا ما ينتهى البناء فى الثالثة عصرا وبعدها بعشر دقائق يمتلئ بالسكان الجدد ويتم تركيب التليفون الجديد وفى الثالثة والربع يبدأ الساكن الأمريكى فى التفكير بالانتقال إلى عمارة أخرى!.
 الأمريكى يحب السرعة.. وعادة ما تكسبه أمريكا بسرعة تخسره بسرعة وفى عادة يفوتها القطار الذى كانت تستطيع أن تستقله وهو واقف فى المحطة فتجرى وراءه وتضطر أن تركب سيارة لتلحق به فلا تسعفها فتستقل طائرة.. وهكذا تدفع ثمن ركوبها القطار مضاعفا عدة مرات.. وقد رأى صاحبنا شارع برودواى فى الثلاثينيات ثم رآه فى الثمانينيات وإذا بالشارع يتحول إلى مدينة.. وهو شارع فيه كل شيء دور السينما والملاهى والمسارح والمطاعم والحوانيت وأصحاب الملايين والمفلسين وأجمل نساء العالم وامرأة مشوهة لها شارب ولحية.. ويحتاج عدة أيام لتخترقه طولا وعدة أيام عرضا ولا تستطيع مهما بقيت أن ترى فيه كل شيء وهو شارع مزدحم بالناس حتى يخيل لك أن مليونا من البشر يحتشدون فيه وإذا كنت قصير القامة داستك أقدام المارة.. والأمريكان يهتمون بالرصيف فتجده أعرض من الشارع فالأغلبية تمشى على أقدامها وليس معقولا أن يفعل الأمريكى ما نفعله فى مصر عندما نختصر الرصيف لنوسع الشارع الذى تمشى فيه السيارات.. وفى كل عام يزيدون من طول شارع برودواى حتى أن رجل مرور قال إنه بعد خمسة قرون سوف يمتد من الشمال حتى قناة بنما وتصبح نهايته عند خط الاستواء.. وكثيرا ما ترى فى شوارع أمريكا 6 كبارى فوق بعضها.


مدينة خطرة
الإثنين:
 شوارع أمريكا غريبة تجمع المتناقضات فيها حانات للخمور وبجانبها كنائس للعبادة.. وقصور شاهقة وبجوارها بيت متواضع من طابقين.. وترى سيارة فخمة ثمنها نصف مليون دولار ومقابضها وإطاراتها من الذهب وبجانبها سيارة فورد موديل 1920 وفيها محلات تبيع التورتة العالمية وإلى جانبها شركات للحانوتية تعلن عن استعدادها لدفن الموتى بأسعار متهاودة.. والمواطن الأمريكى يعشق العمل فهو يعطى كثيرا ليأخذ كثيرا فإذا تولى عملا تفانى فيه وجدد وابتكر وهو طموح يهوى الأجمل والأكبر والأضخم والأغنى فى كل شيء ولا يقنع بالقليل ويرضى بالحياة المتواضعة الراكدة.. وفى الثلاثينيات كانت نيويورك مدينة آمنة تستطيع أن تسير فيها بعد منتصف الليل وأنت تحمل مليون جنيه.. أما فى الثمانينات فقد أصبحت مدينة خطرة وعندما تصرف شيكا من أى بنك يحذرك الصراف أن تحمل فى جيبك أكثر من 10 دولارات فإن اللصوص وقطاع الطرق أكثر من عدد رجال البوليس وأنك إذا رأيت فى الشارع جنديا سترى عشرة نصابين وعشرة نشالين وعشرة من قاطعى الطرق.. وسأل صاحبنا الصراف كيف تصرف الشيك فى 5 ثوانٍ فاعتذر عن التأخير قائلا: كان يجب أن أصرفه فى ثلاث ثوانٍ وتذكر صاحبنا أنه فى بلده يحتاج أحيانا نصف ساعة لصرف شيك بعد أن يبحلق الصراف خمس دقائق وراء خمسات أخرى فى وجهه وللشيك والتوقيع ليتأكد أنه ليس مزورا أو نصابا ثم يطلب منه ضمانا من اثنين من موظفى الحكومة.. وقال له الصراف الأمريكى إنهم لو فعلوا كما نفعل لأفلست البنوك فكل دقيقة تساوى 100 دولار ولو آخره ثلاثون دقيقة فمعنى ذلك أن البنك يخسر 3 آلاف دولار والأفضل له أن تسرق ألف دولار من البنك من أن يخسر ثلاثة أضعاف هذا المبلغ.


 أهم ما فى شارع «برودواى» بعد البنوك شركات التأمين.. ففى أمريكا يمكنك أن تؤمن على كل شيء وضد كل شيء فبعض الناس يؤمنون على جمال عيونهم وأقدام الراقصات وأصابع الجراحين وحناجر المطربين والمطربات و»أدمغة» الكتاب وضد خيانة الزوجات أو هروب العشيقات.. ويحكى أن ممثلة فاتنة أمنت على «الحسنات» فى جسدها.. كانت الحياة فى الثلاثينيات جميلة بأمريكا.. كان الجنيه المصرى يستبدل بخمسة دولارات.. وكنت تستطيع أن تشترى سيارة بويك جديدة فيها راديو بمائتى جنيه مصرى والحصول على الجناح الملكى فى فندق «ولدورف استوريا» أضخم الفنادق فى تلك الأيام بعشرة جنيهات مصرية.. كان صاحبنا سعيدا وهو يشعر بالفلس والعجز عن مجاراة هذا الغلاء الفاحش من وجهة نظره.. وكان يعزه شبابه فقد كان الشباب يغنى عن الفلوس.


 المكتبة المصرية مليئة بالكتب والقصص والإبداعات الكثيرة.. وكتاب «أمريكا الضاحكة.. زمان» واحد من تلك الإبداعات المليء بالحكايات والمشاهدات والأحداث فى أمريكا وخلال رحلته الوصول بالباخرة التى استمتعت بها.. لقد رزقنا الله عز وجل الكثير من النعم لا نعرف قيمتها.. مع الالتزام بالإجراءات الاحترازية سنعبر جميعا مصريين وأمريكان وسائر البشرية فى دول العالم الأزمة وننتصر بإذن الله على فيروس «كورونا».