حديث الأسبوع

حينما تتحول المآسى الإنسانية إلى تجارة

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

عبدالله البقالى

من غير المستساغ أن يمر حادث إقالة شركة CURV VAC AG لرئيسها التنفيذي،السيد دانيال مينيشيلا من منصبه بصفة مفاجئة،و فى ظروف تتميز بحساسية مفرطة،كحادث عابر لا يختلف عن رزمة القرارات الكثيرة التى تهم إقالات كثيرين فى الشركات العالمية العملاقة، التى يغير كثير منها مسؤوليها التنفيذيين كما يغير الفرد معطفه كل صباح. فللحادث خصوصيات كبيرة وكثيرة ترتبط بالحرب الضروس التى يخوضها المجتمع البشرى ضد عدو فتاك يحاصر الإنسان فى كل مكان، لكنه عدو متستر لا يرى ولا يواجه فى العلن.
فقد كشفت مصادر علمية أن الإقالة جاءت مباشرة بعد لقاء الرئيس التنفيذى للشركة الألمانية المختصة فى الأدوية البيولوجية رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب، الذى كان مرفوقا بفريق من مستشاريه المختصين. وما راج بشكل رسمى وعلنى فى شأن هذا اللقاء، أنه ركز على بحث سبل تطوير لقاح لفيروس «كوفيد 19 «، لكن خلفيات الإقالة، كما تناقلتها وسائل إعلام ألمانية كثيرة تابعت تطورات هذا الأمر باهتمام كبير، تؤشر إلى أن اللقاء بحث سبل تمكين الولايات المتحدة الأمريكية من الاستفراد بإنتاج اللقاح الخاص بجائحة كورونا.
حادث الإقالة يجب ربطه بكثير من الوقائع والتطورات التى سبقت اللقاء. فقد راجت قبل أيام قليلة،أخبار شبه مؤكدة،تفيد بأن الإدارة الأمريكية مصرة على الاستفراد بالبحث عن اللقاح المعلوم، الذى إن تمكنت منه فى المدى المنظور، سيحقق أرباحا مالية خيالية لشركات أمريكية بعينها، لأن كل العالم مستعد للدفع بشيك على بياض،من أجل القضاء على الوباء الذى تمثل مواجهته حربا عالمية ثالثة حقيقية خطيرة، مختلفة عن الحربين العالميتين السابقتين، لأنها هذه المرة حرب بيولوجية خالصة، تشرع مستقبل المجتمع البشرى على مخاطر كبيرة وكثيرة، وهو الإصرار الذى وصل حد مقايضة الشركة الألمانية بمليار دولار مقابل تخليها عن مواصلة مختصيها وخبرائها تطوير أبحاثهم العلمية للتوصل إلى المصل المطلوب.و هى المقايضة التى رد عليها وزير المالية فى حكومة السيدة أنجيلا ميركل بالقول إن «ألمانيا ليست للبيع» كما أعلن وزير الداخلية الألمانى هورست زيهوفر فى نفس السياق « إن لجنة أزمة تابعة للحكومة الألمانية ستناقش محاولة التدخل من قبل الحكومة الأمريكية لدى شركة أدوية ألمانية لتطوير لقاح مضاد لفيروس كورونا.»
وفى التفاصيل المتعلقة بهذا التسابق المحموم بين ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية نحو اكتساب السبق فى هذا الاختراع،نستحضر القوة الضاربة للشركة الألمانية الموقظة لمضاجع البيت الأبيض الأمريكي، فهى الشركة التى نجحت فى برنامج مكافحة داء الكلب CV 7202،و تفوقت فى برنامج علاج الأورام المناعية، وهى التى امتلكت خبرات وتجارب أهلتها إلى مباشرة أبحاث علمية دقيقة لاكتشاف تلقيح فعال يقضى على وباء «كوفيد 19»، وهذا ما يفسر التزام مسؤولى الشركة بإنتاج هذا اللقاح فى غضون شهور قليلة، حيث أفادوا أنه « يمكن الاعتماد على بيانات دراسة داء الكلب فى مرحلته الأولي، حيث تم تحصين جميع المتطوعين بعد تناولهم جرعة مخفضة للغاية « وأضافوا بالقول « إنه على هذا الأساس نعمل بشكل مكثف لتحقيق جرعة مخفضة جدا للقاح COV أيضا «، وأفادت معطيات دقيقة أن هذه الشركة التى تمتلك منشأة إنتاج معتمدة تمكن من إنتاج ما يصل إلى عشرة ملايين جرعة لقاح دفعة واحدة، شرعت فعلا فى اختيار متطوعين للقاح بناء على معايير الجودة والنشاط البيولوجي، كما أكدت أنها تنسق تطوير برنامجها مع معهد PAUL EHRLICH الألمانى من أجل التطوير السريرى السريع للقاح،وقالت إن هذه الخطوات ستتيح بدء التجارب السريرية فى أوائل الصيف المقبل، وأنه قد تم تحديد مركزين للدراسة الأولية، وهما قيد الإعداد.
و هكذا يبدو أن السير الحثيث نحو السبق إلى اكتشاف المصل المنتظر لم يرق لأطراف أخرى تسعى إلى تحقيق نفس السبق سواء فى جمهورية الصين، أو فى روسيا،أو فى دول أوربية أخري، تبذل بدورها نفس الجهود، حيث ضخت ميزانيات طائلة لتشجيع وتسريع الأبحاث العلمية، وخصوصًا فى الولايات المتحدة الأمريكية، التى يتضح أنها بدورها كانت تسرع الخطى من أجل تحقيق نفس الهدف، والأكيد أنها أدركت حجم المخاطر القادمة من بلاد هتلر، ولذلك بادر مسؤولوها فى البيت الأبيض إلى محاولة إفشال تلك الجهود وتحقيق الاستفراد، وفى هذا الصدد نشرت صحيفة ( فيلت أم زنتاغ ) الألمانية الأسبوعية تقريرا فى هذا الموضوع أكدت فيه أن «الرئيس الأمريكى حاول جذب علماء ألمان إلى بلاده بتحويلات مالية عالية لضمان اللقاح حصريًا لبلاده «.
إذن، إقالة المدير التنفيذى لأحد أهم الشركات العملاقة فى مجال الصناعات الدوائية فى العالم،لم يكن حادثًا معزولًا عن رزمة الأحداث التى يكتظ بها عالم الصناعات والاقتصاد، بل إنه يكشف حقيقة لا تقل خطورة عما يواجهه العالم من تحديات تهم الوجود فى أصله.ذلك أن المجتمع الدولى يواجه فى كل لحظة من لحظات هذه الأزمة المستفحلة صدمات قوية بسبب الضحايا العزل،خصوصًا من المسنين الذين يسقطون بعشرات الآلاف، وبسبب الذهول من العجز الفظيع لدى دول اكتسبت خوفنا ورعبنا من قوة بنيتها الاقتصادية ومتانة نظمها الصحية فى التصدى لوباء مستجد، حيث كادت تسلم بأمر السماء بعد أن فشلت جهودها فوق الأرض، ونتيجة أجواء الرعب والخوف والقلق، واقتراب الأوضاع من حالة الفتنة العالمية.
فى خضم كل هذه المآسى يكشف حادث إقالة مسؤول أول فى شركة عن تجارة وسمسرة الأزمات، حيث تسعى أطراف معينة إلى تحويل كل هذه المآسى والكوارث إلى مشروع اقتصادى ربحى ضخم يجرى التنافس المحموم حوله لضمان مراكمة الأموال والمصالح.
إنه التوحش الرأسمالى الذى قاد العالم إلى الهاوية التى تعيش حاليا دول كثيرة فى قعرها تبحث عن خيط أمل لإنقاذها.