يوميات الأخبار

الخطاب الدينى بعيدًا عن المصطلحات «٢»

د. مبروك عطية
د. مبروك عطية

د. مبروك عطية

ولا أجد تعليلا لذلك إلا السواد الذى حل فى قلوب هؤلاء، والذى لا يمت إلى الدين بصلة من قريب أو بعيد.

أول جماعة فضها النبى
السبت :
يبدو أن حب الجماعة، والانفراد عن الأمة من طباع الناس، وهناك جماعتان فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم، الأولى كانت فى مكة، وفيها قال: لو دعيت إلى مثلها فى الإسلام لأجبت، والثانية بمجرد أن سمع بها جرى إلى مؤسسها ونهاه عنها، وفضها، والفرق بين الجماعتين أن التى كانت بمكة والتى قال فيها صلى الله عليه وسلم ما قال مدحا لها، كانت قد قامت على مبدأ رد المظالم، حفاظا على اسم الوطن، وسلامة أمنه القومى، فقد كان سببها أن جاء رجل من اليمن بتجارة له إلى مكة، فأخذها منه العاص بن وائل السهمى، ولم يعطه ثمنها، فصرخ، واستغاث بالناس، ورأى أكابر مكة أن فى هذا الصنيع المشين خطرا على أمن مكة القومى، فكيف يعود الرجل إلى وطنه اليمن، ويذيع فى الناس أنه ظلم بمكة، وبين مكة واليمن علاقة تجارية ليست بالهينة، وقد ذكرها الله تعالى فى سورة قريش من الكتاب العزيز، وأجبروا العاص بن وائل أن يدفع للرجل ثمن بضاعته، ثم اجتمعوا فى مقرهم الكبير دار الندوة، وكونوا تلك الجماعة، وأطلقوا عليها حلف الفضول، ولهذا الحلف رسالة واحدة، هى رد المظالم إلى أهلها، والوقوف فى وجه مثل العاص من الذين يريدون أكل أموال الناس بالباطل، وقد شهد النبى صلى الله عليه وسلم هذا الحلف فى شبابه، أى قبل بعثته المشرفة، ورد المظالم إلى أهلها مبدأ تعرفه الفطرة السوية قبل أن يكون دينا وشرعا، ومن ثم قال : لو دعيت فى الإسلام إلى مثله لأجبت، وأما الثانية التى فضها صلى الله عليه وسلم، فهى جماعة حاول إنشاءها الصحابى الجليل عثمان بن مظعون أبو السائب، وكانت دينية محضة، ومن مبادئها المزعومة الصيام الدائم، والسياحة فى الأرض، وتحريم أكل اللحوم، واعتزال النساء زهدا فى متاع الحياة الدنيا، وتفرغا للعبادة، وقد روى البخارى فى صحيحه الحوار الذى كان بين سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين الصحابى الجليل فى كلمات معدودة، جامعة مانعة تعلمنا اليوم كيف يكون الحوار عالى اللهجة قريب المأخذ، لا عك فيه ولا لف ولا دوران، حيث قال صلى الله عليه وسلم لعثمان:
أتؤمن بما نؤمن يا عثمان؟
قال: نعم
قال: أنا أصلى وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وتلك سنتى، ومن رغب عن سنتى فليس منى.
وانتهت الجماعة فى مهدها، وذلك يعنى أنه لا يحق لأحد أن يؤلف دينا من هواه، وإنما يحق لكل أحد أن يفقه دينه الذى ارتضاه الله تعالى له، وكلما فقه فى هذا الدين أمرا بدا له من جوهر هذا الدين أن كل أموره يسر لا عسر، وأن الله الذى شرعه لا يكلف نفسا إلا وسعها، وأن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ذرونى ما تركتكم، وقال: ما أمرتكم بأمر فافعلوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عن شيء فانتهوا، أى أن اجتناب الحرام لازم، والإتيان بكل واجب ليس فى وسع كل إنسان، فكيف يؤلف الناس دينا؟ بل إن الجماعة التى ارتضت لها دينا مأخوذا من أصل الدين بيد أنها قدمت، وأخرت، وزادت ونقصت، لا يضمن أحد أن ينضم إليها من العناصرالنشطة من يضيف إليها جديدا لم يكن موجودا قبله، أو أن ينقص، فالمادة قابلة للتلاعب، ولا يضمن أحد أن يحكم هؤلاء على سائر المجتمع بالكفر، فهم وحدهم المؤمنون، ومن يخالف جماعتهم كفرة فجرة، وتلك آفة الفتنة التى هى أشد من القتل وأكبر، ومن ثم قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلك الجماعة الوليدة قبل أن تشب، وتفجر فى وجه المجتمع، معلنة كفره الذى يقابل إيمانها، وهى نوع من التفريق بين الناس، وهذا الدين لا يعرف الجماعات، ولا التعصب لها، وكم لاقى الناس من جراء تلك الجماعات اختلافا فى العقيدة، والعبادة، والتعصب الذى تحول إلى ساحة قتال أريقت فيها الدماء، إن الخطاب الدينى لم يأت إلا بـ «أيها الناس، ويا أيها الذين آمنوا»، وينص صراحة على أن ملايين المسلمين أمة واحدة يقول فيها سبحانه: كنتم خير أمة أخرجت للناس»
 دعاء النبى للكافرين بالرخاء
الأحد :
وفى سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم العطرة نجد أن الجدب حين حل بمكة؛ فلم تمطر السماء، ولم تنبت الأرض، فعانى الكفرة البؤس والجوع، ورأوا الأفق دخانا من شدة ما يعانون، وقرروا أن يرسلوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم من يسأله أن يدعو لهم باسم الرحم، وقد كان، وقال رسولهم إليه وهو أبو سفيان وكان يومئذ على شركه: بلغ بقومك ما بلغ من الشدة، وهم يسألونك باسم الرحم أن تدعو لهم حتى يكشف الله تلك الغمة، ودعا لهم النبى صلى الله عليه وسلم؛ فأمطرت، وكان الرخاء، وأكلوا.
ومن بديع ما قرأت فى الروض الأنف للسهيلى أن بلالا رضى الله عنه كان يؤذن فوق سطح بيت للأنصار، فكان يصعد ذلك السطح قبل الفجر بساعة، وسمعته صاحبة هذا البيت يدعو فى تلك الساعة ربنا تعالى قائلا: اللهم اهد قريشا، يسأل الله أن يهدى قريشا، وهم الذين جلدوه، وكانوا يضعون حجارة جبالهم الموقدة فى الصيف فوق صدره حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: أحد أحد، حفظ الله عليه دينه، وثبته، وهاجر بدينه من مكة إلى المدينة، وكأن عظمة هذا الدين الذى استقر فى قلبه مسحت كل آثار التعذيب، الذى ذاقه.
والدعاء للكفار فى محنتهم لا يذكره المتطرفون دينيا، لا فى خطابهم الذى هيهات أن يكون دينا، ولا يذكرونه تاريخا كما نذكره الآن، فكل ما عندهم صب اللعنات والشماتة لا أقول على الكفار وحدهم، وإنما على كل من يخالف هيئتهم، ولباسهم، وفكرهم المنحرف، وهم يطلقون على من يتفق فى ذلك اسم (أخ) وما عداه لا يشرفونه بهذه الأخوة، وهذا فجر صريح، وبعد تام عن منهج القرآن الكريم الذى فيه قال الله تعالى : «إذ قال لهم أخوهم هود، وأخوهم صالح، وأخوهم لوط « من سورة الشعراء، ولا شك أن الضمير فى أخوهم يعود على الكفرة، فإن قال قائل: فى أى شيء تكون تلك الأخوة؟ فالجواب أنها أخوة فى الوطن، والإنسانية، وهذا الذى منذ زمان أقول فيه: لقد توسع الإسلام فى الأخوة إلى شأو بعيد، فمن الاخوة فى النسب إلى الأخوة فى الدين، إلى الأخوة فى الوطن، إلى الأخوة فى الإنسانية، فكيف حصرها قوم فى الأخوة فى الشكل والهيئة والتخريف الذى يرونه فكرا ودينا.
ولا أجد تعليلا لذلك إلا السواد الذى حل فى قلوب هؤلاء، والذى لا يمت إلى الدين بصلة من قريب أو بعيد، وهو ما رآه النبى صلى الله عليه وسلم فى رجل حديث عهد بالدين حين دخل عليه فرآه يقبل الحسن؛ فبهت، وقال : أتقبلون صبيانكم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نعم ؛ قال: والله إن لى عشرة من الأولاد ما قبلت واحدا منهم؛ فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن قال له ما رواه البخارى: وهل أملك وقد انتزعت الرحمة من قلبك! أى لا شيء منعك من تقبيل أولادك إلا خلو قلبك من الرحمة، وهؤلاء ما منعهم من إطلاق كلمة أخ على غير من هو على شاكلتهم إلا انتزاع الرحمة من قلوبهم، فإذا كانوا يوقنون أن هذا الدين دين الرحمة كان عليهم أن يراجعوا دينهم.
ليلة سوداء بسبب الخطاب الدينى
الإثنين:
لا أنسى ذلك السائق الذى جاءنى من كلية التربية جامعة عين شمس لإلقاء محاضرة فى المولد النبوى الشريف منذ عشرة أعوام، وجدته يبكى حين رآنى، ويقول: والله أنا ابن حلال وغلبان عشان كده ربنا بعتنى مشوار حضرتك، فلما هدأت من روعه وانطلقنا حكى لى القصة، وخلاصتها أنه من القليوبية متزوج وله ثلاثة أبناء، وهو يعمل فترتين من أجل الإنفاق على زوجته وأبنائه وأمه العجوز التى تركها له أبوه، يصحو فجرا من القليوبية، ويتسلم عمله سائقا بالجامعة، ويركب وردية تاكسى بعد انقضاء ساعات العمل، ويصل بيته بالقرية فى منتصف الليل، وزوجته تعد له العشاء، الذى يتناول بعضه ثم يخطفه النوم من هدة الحيل، وليس أمام زوجته بعد أن تؤدى أعمال البيت سوى القعود أمام الشاشة، ولأنها تعرف أنهم غلابة وشقيانين تتابع البرامج الدينية بغية أن تحدث البركة فى بيتها إلى أن جاءت الليلة السوداء، حيث سمعت متصلة تقول للشيخ الملتحى القابع أمام كاميرا الفتاوى: إن زوجى لا يقيم الليل؛ فصرخ المدعى، وحوقل وهلل واستغفر، وقال لها بالحرف الواحد:
اطلبى منه الطلاق يا أختاه، فهذا ليس مسلما، ودب الرعب فى زوجة السائق، وقالت: وزوجى أيضا عمره من يوم ما عرفته ما صلى بالليل، إنه يكمل عشاءه نوما، فلما عاد على عادته قالت له: طلقنى طلقنى، وبهت الرجل، وسألها عما بها؛ فحكت له القصة وهى مصرة على طلب الطلاق، فلما قال لها: وربنا المعبود الراجل ده ما بيفهم حاجة، أنا أصلى العشاء فى القاهرة، ولا أترك فرضا، وأعود مهدود الحيل، وربنا يعلم بحالى، فقالت له: أبدا، كل الناس شقيانة وتعبانة مش انت لوحدك، والشيخ قال: اللى مش بيقيم الليل مش مسلم، وعيشة مراته معاه حرام، وسألنى بأدب جم أن أسمعها رأيى بعد أن غلا الدم فى عروقى لما علمت، ولما أعلم عن هؤلاء مما لا يعلم هو وزوجته، فلبيت، وقال لها معك فلان فرحبت بى، وقالت ما جرى؛ فقلت لها: اسمعى منى: قيام الليل بالنسبة إلى زوجك أن ينام، حتى يصحو بعافية جديدة ليؤدى عمله، ويعود إليكم بالخيرات التى تغنيكم عن سؤال الناس، فقالت : يعنى هو مش كافر؟ قلت : كل من ينطق بالشهادتين يا ابنتى أو يشير إلى معناهما إن كان لا ينطق فهو مسلم ؛ فزغردت البنية، وفرحت فرحا شديدا، وحلفت بالله أنها لن تشاهد هذه القناة أبدا، وحمدت أنا الله لما أسفرت عنه نتيجة المكالمة، وأن تلك الصبية لم تكن بعد قد تشبعت بفكر هؤلاء الذين يعدون من لا يقيم الليل كافرا، وإلا فلم تكن مكالمة ولا محاضرة كافية لرجوعها إلى الصواب، وتذكرت الحوار الذى كان بين سيدنا النبى صلى الله عليه وسلم، وبين إخوة أشقاء جاءوه يريدون منه أن يعفيهم من صلاة العشاء قائلين له: إنهم يعملون طوال النهار، ويعودون ليحلبوا إبلهم وهم مرهقون، فلو صلوا العشاء ما حلبوها، فابتسم صلى الله عليه وسلم، وقال لهم : إن شاء الله تحلبون إبلكم، وتصلون عشاءكم، ما قال لهم ظننتكم تسألوننى عن قيام الليل، لا وكلا وألف كلا لابد أن تقيموا الليل وإلا كنتم غير مسلمين، عبث فى الأدمغة، وانحراف عن الجادة وقصص وحكايات عن أناس توفرت فيهم العافية فقاموا الليل اتخذوها أدلة شرعية، وما هى بأدلة، وقد قال العلماء: على المفتى أن يفتى الناس من دينه لا من عمله، فقد يكون ورعا عاملا تمكنه ظروفه وطاقته من عمل المزيد الذى ليس واجبا عليه ولا على غيره.