يوميات الأخبار

الخطاب الدينى.. بعيدا عن المصطلحات

د. مبروك عطية
د. مبروك عطية

فقالوا: إنها قليلة الصلاة قليلة الصوم لكنها لا تؤذى جيرانها؛ فقال: هى فى الجنة.

معنى الخطاب الدينى
السبت:
الخطاب الدينى معناه كلمة الله عز وجل، وكلمة رسوله صلى الله عليه وسلم المخاطب بها كل مكلف، أى كل بالغ عاقل لكى تكون الحياة أسهل وأجمل؛ والدليل على ذلك قوله عز من قائل: «يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم» والدعوة إلى تلك الحياة تكون من خلال سلوك عبد كلفه الله بالعبادات المعروفة مثل الصلاة والصيام من أجل تهذيب سلوكه، بدليل قول ربنا: «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر» وقوله سبحانه: «كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون».
وفى الحديث: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له، وفى رواية شديدة التأثير على القلوب الحية: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا، وقد نزل رجل أقطع ضيفا على الصديق أبى بكر، أى قطعت يده فى سرقة سرقها، وكان للصديق دار جعلها لمن ينزل به ضيفا، فأنزله بها، ومر عليه بالليل، فسمعه يقرأ القرآن الكريم، فسره ذلك، ثم حدثته نفسه بالمرور عليه مرة أخرى، فوجده يصلى، فقال الصديق فى نفسه: والله ما ليلك بليل سارق، واطمأن ونام، فلما أصبح وجد ابنته أسماء تصرخ، حيث سرق ذهبها، وشاع الخبر، ووجد الصديق مشهدا عجبا، هو أن هذا الأقطع وقف بين طائفة من الناس اجتمعوا إليه، وهو يقول : اللهم العن من سرق بنت أبى بكر، والناس يقولون وراءه آمين، يكرر الدعاء على من سرق أسماء، والناس يقولون بحرارة وراءه: آمين، حتى مر يوشع الصائغ اليهودى، وقال للصديق : هذا الأقطع قد باعه هذا الذهب فجرا قبل أن يصحو الناس، وثبت أنه هو الذى سرقه، فقال له الصديق: والله ما عرفت الله.
أى يا من ظللت طول الليل تتلو كتاب الله، وتركع وتسجد، حتى قلت أنا فى نفسى: والله ما ليلك بليل سارق ـ ما عرفت الله بهذه التلاوة، وتلك الصلاة وأنت تنوى السرقة، وقد سرقت بالفعل، والعلماء يقولون فى تفسير من كان هذا سلوكه: سقطت عنه الفريضة إلا أنه لم ينل بركتها فى تهذيب سلوكه، وغير العلماء يقولون : لا تنفع له صلاة، ولا صيام ولا حج، وفرق كبير بين قول العلماء، وقول غيرهم من الذين لا يعلمون، فكم أضل قول الجاهلين بأمم من الناس، لأن المرء إذا اعتقد صحة ما يقولون، بأن صلاته وسائر عبادته غير نافعة قال فى نفسه بركة يا جامع، وامتنع، بينما الحق يقتضى أن نقول سقطت عنه الفريضة ولعل صلاته ذات يوم تمنعه عن كل فحش، فالأمل باق، والدعوة إليه دعوة ربانية، ألا ترى إلى قوله تعالى: «قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم» ولا أحد يتألى على الله، ولا أحد يحكم بحكم على غير دليل من هدى وكتاب منير إلا من فى قلبه مرض، وما أكثر مرضى القلوب!
والدليل من السنة الصحيحة جماعة من الناس حكوا للنبى صلى الله عليه وسلم عن امرأة كثيرة الصلاة، كثيرة الصوم إلا أنها تؤذى جيرانها بلسانها؛ فقال عليه الصلاة والسلام: هى فى النار، وحكوا له عن امرأة مسلمة أخرى فقالوا: إنها قليلة الصلاة قليلة الصوم لكنها لا تؤذى جيرانها؛ فقال: هى فى الجنة.
وهذا معناه أن من كانت معتدلة فى النوافل لكن سلوكها مع جيرانها سلوك طيب قد فهمت سر الخطاب الدينى، الذى معناه الدعوة إلى حسن المعاملة مع الناس لاسيما الجيران، وأن من كانت كثيرة القيام بالنوافل كانت مظنة أن تكون أكثر حرصا على تهذيب سلوكها، وبعدها قدر طاقتها عن أذى الناس لا سيما الجيران.
من قال هذا فى خطبة جمعة ؟
الأحد:
وقد وجدنا رجلا دخل المسجد النبوى الشريف والنبى صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة، ورآه يتخطى رقاب الجالسين؛ ليجلس فى الصفوف الأمامية، فقطع صلى الله عليه وسلم الخطبة، وناداه، وقال له: اجلس فقد آذيت؛ فجلس مكانه، أى حكم عليه صلى الله عليه وسلم بأنه آذى الناس الجالسين بأن تخطى رقابهم، مجرد أن مروره بينهم جعلهم يميلون برقابهم ميلة خفيفة حتى يمر عده النبى صلى الله عليه وسلم أذى، ونهى الرجل عن هذا الأذى، وأمره أن يجلس مكانه حتى يترك الجالسين آمنين لا يتحركون أدنى حركة من أجل أن يمر، فمن خطب الجمعة من الأئمة الذين تحولت معظم خطبهم إلى التوك شو، وقال للناس: هذا هو الخطاب الدينى ألا تؤذى أحدا بما تتوهم أنه لا يضره، وأنها مجرد حركة خفيفة، فأنت لم تسأله أن يقوم من مقامه، أو أن يترك مكانه لك، لا بمجرد أن تسأله بحركتك أن يميل عده رحمة الله للعالمين أذى، بل وقطع كلامه، وكلامه دين، فانظر كيف توقف الدين حتى يمنع أذى المؤذين، وخاطبهم الإمام الهمام بقوله : ترى لو كان صلى الله عليه وسلم بيننا ورأى ما نحن عليه من ضرب بعضنا بعضا، وجرح بعضنا بعضا، وما نطلق عليهم البلطجية، ومن يرفع السلاح فى وجه أخيه، ترى هل كان سيحكم علينا بالأذى، أم بحكم آخر لا نطيقه.
وكما قطع النبى صلى الله عليه وسلم الخطبة ليمنع أذى بهذه الصورة التى ربما رآها كثير من الناس ليست من الأذى فى شيء، لم ينتظر الصلاة برمتها حين علم بأن بنى الحارث بن عوف يتعاركون، ويضرب بعضهم بعضا بالحجارة، خرج من المسجد، وتركه، وذهب إليهم ليمنعهم، حتى قال له مؤذنه بلال رضى الله عنه قبيل خروجه : أؤذن إذا حان الوقت؟ قال: نعم
فسأله بلال: ومن يصلى بالناس؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أبو بكر. ما قال كما يقول الملايين: نصلى ونشوف الموضوع ده، لقد بلغه أن الناس يتعاركون، فكيف ينتظر، ولو انتظر لكان معنى ذلك أن الأمر فيه سعة، ولا سعة فى منع المتعاركين عن معركتهم، بل الضرورة كل الضرورة، وحين اشتبك الأنصار بعضهم مع بعض، ودخل الشيطان بينهم حتى هموا بقتال خاطبهم بقوله: أفعل الجاهلية وأنا بين أظهركم ! ونزل فيها قول الله تعالى: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا... ولو أمهل صلى الله عليه وسلم هؤلاء وهؤلاء لتفاقم الأمر، ولما احتضن بعضهم بعضا بعيد هذا التذكير النبوى الذى ينبغى أن يكون له امتداد إلى قيام الساعة؛ لقول الله ربنا : «لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا».
مشكلة الواجب والآداب
الاثنين:
والعلماء قد ناموا طويلا عن حكم الواجب الذى اندرج تحت ما يسمى الآداب، وكان عليهم أن يصرحوا فيه بالوجوب؛ لأن معنى الآداب يشعر بأنه من قبيل المكملات، أو النوافل، أو الزينة، التى لا ضر المسلم أن يلتزم بها أو يتركها، فمن الآداب ما له حكم الواجب كما فى رفع الأذى فى مثل هذا السلوك الذى قطع من أجله النبى صلى الله عليه وسلم خطبته، وفى إيقاف التعارك بين المسلمين الذى من أجله لم ينتظر صلى الله عليه وسلم حتى يصلى، وحين قال صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده» لم يكن ذلك من قبيل الآداب التى قد يفهمها عامة الناس على أنها مجرد تحلية، وإنما هى من قبيل الواجب الذى عده ربنا فى الكتاب العزيز ميثاقا، وقال فيه فى آية البقرة: «وقولوا للناس حسنا» وقد بات ذلك كله تحت عنوان آداب الحديث.
والحق أنه ينبغى علينا أن نقول: واجبات الحديث.
لم يذكر ذلك أحد
الثلاثاء:
وفى الحديث السابق تتمة لغوية أراها من متن الخطاب الدينى الذى لم يذكره أحد، فالأمة على أن معنى الحديث أن يسلم الناس من لسانك فلا تشتمهم ولا تسبهم، وأن يسلموا من يدك فلا تجرحهم ولا تضربهم، وهذا واجب بلا شك.
لكن رأيت أن (من) تأتى بمعنى السبب، والدليل على ذلك قوله تعالى: «مما خطيآتهم أغرقوا فأدخلوا نارا» ومما أصلها من ما، ومعناها بسبب خطاياهم أدخلوا النار، وكونها فى الحديث على هذا المعنى من متن الخطاب الدينى النائم، والذى ينبغى أن يصحو، ويفيق، لينتشر، ولنجنى ثمرته جميعا، وحملها على السبب أن يسلم الناس من لسانك أى بسبب لسانك سالمون حيث تدافع عن مظلومهم، وترد غيبة غائبهم، ولا تسمح بغيبة ولا نميمة، فقولك لمن يغتابهم : كف عن هذا سلامة لهم من تحقيق شهوة ذى الغيبة الذى يحققها فى تناوله سيرة الناس، وذم ممدوحهم، وانتقاص ما يشبه الكمال المعروف عن بعضهم، وكونهم يسلمون بسبب يدك أى يأكلون ويشربون ويكتسون بسبب يدك التى عملت، وربحت، ومدت إليه بالخيرات، والدليل على ذلك أن حمل الحديث على المعنى الأول فقط معناه سلب، أى لسانك ساكت عن سبهم، ويدك باطلة عن تقديم الخير لهم، ودرجة السالب فى هذا الدين تكون متأخرة، بدليل حديثه صلى الله عليه وسلم : على كل مسلم صدقة، فلما قيل له : فإن لم يجد قال : يعمل، ثم انتهى صلى لله عليه وسلم بقوله أن يسكت عن الشر فذلك له به صدقة، فجعل السكوت وهو سلب فى المؤخرة، والدين دعوة إلى الإيجاب، والعمل، والعطاء، وحمل (من) هنا على كونها سببية مؤثر جدا فى حياة الناس حتى لا يكونوا كما قال القائل : فلان ساكت لا بيهش ولا بينش، وقد نام صلى الله عليه وسلم وإلى جواره الزبير بن العوام وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، فلم يسكت الزبير مستمتعا ببركة وجوده إلى جنب خير من قدم الوجود صلى الله عليه وسلم، وإنما كان يدفع الذباب عن وجهه الشريف، فلما استيقظ صلى الله عليه وسلم سأله : أمازلت هنا ؟ قال رضى الله عنه : أذب الذباب عن وجهك يا رسول الله ؛ فقال: إن الله بشرنى أن جبريل سيذب عنك شرر جهنم يوم القيامة لم يكن الزبير سالبا، بل كان إيجابا، بدفعه الذباب عن وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم الذى نستطيع أن نقول فيه: لقد سلم وجه النبى صلى الله عليه وسلم من الذباب من يد الزبير أى بسبب يد الزبير التى امتدت بدفع هذا الأذى عنه، فمن لساننا يكون الدفاع عن الحق، ومن أيدينا يكون العطاء بحق، والجمع بين المشهور وغيره من أهم معالم التجديد للخطاب الدينى الذى أمست الحاجة إليه ضرورة ملحة فى هذا الزمان العجيب الذى نتوقف فيه عند أمور تقليدية غايتها أن نسمع كلمتين حتى نصلى الجمعة، وأن نحفظ أكلاشيهات تغيب تحتها تفاصيل مهمة، تبنى الناس، وهذا البناء هو الكيان الأساس لحياة حقيقية هى التى وعدنا ربنا تعالى بها إن استجبنا له عز وعلا ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وكما أن منع الأذى من الواجبات لا من قبيل الآداب بمعناها الشائع كذلك يكون رفع الأذى ومنعه بإطعام الطعام، وإفشاء السلام الذى لا ينحصر بحال عند قول الناس بعضهم لبعض السلام عليكم ورحمة الله، فوالله ما أفشى السلام من يلقى عليك تحيته، وبيده أن يغير حالك السيئ إلى حسن، وحالك الحسن إلى أحسن منه.