يوميات الأخبار

الواقعية من إبسن لنجيب محفوظ (1-3)

يسرى الجندى
يسرى الجندى

لم يكن واضحا اذن لإبسن أن صدامه بأهل بلده، ليس مجرد رفض عدائى أن يكون شاعرهم القومى، وإنما مصدره هو انفصاله عن عصره الذى يربطه وإياهم.

 عندما بدأ «شكسبير» طريقه إلى المسرح لم يكن من المستغرب أن نراه ناشئاً يجرب ويخطو فى تؤدة وبتهكم ولهو..كما يبدو فى ملاهيه الأولى ولكن كان يسنده فى الوقت نفسه مواضعات تصله بالواقع حوله - مواضعات المسرح الشعبى - وتمضى به، أما «إبسن» فليس يجرب وليس يلتزم بمواضعات محددة للدراما ثم ليس يدرك أى مواضعات تصله بالواقع - واقعه - وكل ذلك مرادف لكونه مازال الشاعر الذى لايدرى حقيقة مشكلته حينما يهبط على خشبة المسرح بقصيدة درامية يخول لنفسه فيها حريته الخاصة كشاعر، ويلبس الملامح التراجيدية التى استقرت ففى وعيه هدفان من الخارج...
> ولذا ووجه برفض من الواقع له. أنه لايفهَم فحسب بل يواجه بعاصفة شديدة من الجميع باعتبار المسرحية تعريضا بالزواج والدين ونجد ان مسرحيته لم تعرض لأنها لم تجد من يجرؤ على اخراجها وانتقمت الكنيسة لنفسها بأن تدخلت لإحباط الالتماس الذى قدمه لكى يتعاطى من خزينة الدولة مرتبا شهريا باعتباره شاعرا...
- والحقيقة ان الأزمة أزمته هو قبل أن تتضح له أزمة الواقع حوله، والشئ المهم بالدرجه الأولى أن هذا المضمون التراجيدى لاتقف خلفه معاناة من إبسن ولايحمل اى حياة حيال حقيقة الواقع...
> وأن الامر يبدو شوقا شعريا ألبسه ابسن قضية ظل لفترة يتشبث بها وهو القومية النرويجية وقد نستطيع أن نربط بينها وبين منطلقه التراجيدى هذا باعتبارنا إياها دعوة للتخلى عما هو بالٍ من الماضى وتجاوزه نحو ماهو افضل، ولكنها لم تكن إلا رداء خارجياً لرؤياه ولم يكن يدرى حقيقة ماتنطوى عليه هذه القومية من ارتباط بواقع معقد يتربص به دون أن يدرى حتى الآن..كل ماكان يشغله بعد ارتباطه بثوريته أن يكون بهذا شاعر النرويج القومى فى طموح مجرد يعبر عنه فى قوله :-
سوف أبتنى لنفسى قصرا من السحاب
جناح وجناحان يظهرانه إلى الوجود، وجناح صغير سوف يتألق مصراعه عبر السحاب، وسيأوى الجناح الكبير منشداً خالداً، ويفتح أصغرهما بابه على مصراعيه لاستقبال غادة حسناء...
ويردد على نحو يدعو للسخرية منه ولتأكيد احساسنا بقوله بحقيقة موقفه :-
«ليسعدنى أن أغرق لكم سفينة النجاة»
«إننا نبحر وفى حمولتنا جثة ميت»
وهو بهذا كله بعيد عن حقيقة الواقع وحركته والنسيج الحضارى المعادى، وعلى هذا النحو يخرج إلى المسرح كشاعر فحسب غافلا عن ارتباط محتوم لابد له منه..بالواقع..، وبأزمة الشاعر يكتب (براند وبيرجنت) - إلى جانب «المطالبين بالعرش»-، مؤكداً استمرار عزلته فى هذا التصور لإمكانية الشاعر المعزولة، أنه يتكلم عن براند بقوله «لقد عرضت فيها لذلك ارتباط محتوم وعلى أى نحو بهذا الواقع وتتطلب منه تجاوز موقف الشاعر كأن يدرك مايعنيه هذا تماما بالنسبة للواقع»، إنها كانت تعبيرا عن أزمته كشاعر _ حيث تعزله حريته العقيمة عن المسرح _ وهو كان يحسها على أنها أزمته ككاتب مسرحى غير مفهوم، ومن هنا استمر الالتباس.. إننا نراه فى هذه القصيدة الدرامية يكتب بإحساس الشاعر وقد تبدى له ماينطوى عليه موقفه من إخفاق ولذا فنحن ندرك إلى جانب تصوره لها وجهاً «للإخفاق المحتوم للشاعر فى عصرنا»، فالشاعر يمكن أن نراه « بيرجنت « الذى لم يستطع أن يكون نفسه..وهو « بيراند « الذى خاض تجربته الخاصة تماما وابتلعه الجليد فى النهاية دون أن يغير شيئا من علاقته بالعالم...
واننا نجد حديثا لإبسن عن «بيراند» له دلالته تماماً بالنسبة لهذه النقطة، واقترابه على نحو خاطف من خطورة موقفه..  إن ((«بيراند» هو أنا فى أحسن حالاتى.. وفى أثناء كتابتى لمسرحية بيراند كنت أضع زجاجة داخلها عقرب، وكانت هذه الحشرة تمرض من حين إلى آخر فكنت أعطيها قطعة من الفاكهة الطرية فكانت تنقض عليها انقضاضا عنيفا وتفرغ فيها سماً، وبهذا تبرأ من علتها مرةً أخرى.. أليس يحدث شئ من هذا القبيل بالنسبة لنا معشر الشعراء؟))..وبالفعل كانت تجربة شاعر يمارس معاناته التلقائية، وهدفه الأساسى أن يبرأ منها دون مواجهة لحقيقة ذلك، وأنه ينفى أن تكون بيراند ممثلة لتجربة» كيركيجارد «- حين ردد البعض ذلك وانما تمثله هو فقط.. والحق أنه هو وكيركيجارد أيضا - الفيلسوف الوجودى - والتجربة المغلقة للشاعر كما يتحتم عليه أن يتخلص منها، هو ماتعنيه هذه المحاولة..
> لم يكن واضحا اذن لإبسن أن صدامه بأهل بلده، ليس مجرد رفض عدائى أن يكون شاعرهم القومى، وإنما مصدره هو انفصاله عن عصره الذى يربطه وإياهم بنسيج عليه أن يتبينه، ليتيسر له بالتالى التخلص من عزلة الشاعر داخل تجربته العقيمة...
وفهمه لهذا النسيج هو طريقه الحقيقى إلى المسرح، أزمته مع المسرح هى أزمته مع الواقع، فكما أنهم لم يرفضوه لأنه يواجههم بحقائق يهربون منها أو يقصرون عنها كما تصور، وإنما لأنه لايدرك أزمة الشاعر مع الواقع الراهن، فعلى هذا النحو لم يدرك أن تجربة الشاعر فى عصره هى تجربة خارج الواقع وعقيمة بالتالى، وأن تجربة المسرح مبدئياً هى ارتباط محتوم وعلى أى نحو بهذا الواقع..
ولم يأت التقاء إبسن بجوهر الواقع من خلال واقع النرويج الخاص وإنما بدأ التقاؤه بمواجهة لأصداء الواقع الحضارى العام وخارج النرويج، ثم انتهى إلى الالتقاء بالواقع مكثفاً فى نطاق المجتمع النرويجي...
فمع مغادرته النرويج تاركاً إياها نحو ألمانيا، يقرر التخلى عن فكرة القومية المسيطرة عليه - وذلك ضمن ثورته على النرويج - ومع تخليه عن هذه الفكرة يبدو كأنما تهيأ ليحس ويدرك ماحوله.. وكان أن أدرك وأحس مايكفى ليمنحه اقتراباً كبيرا من طبيعة العصر الكامنة..وصمَتَ فترة خاض فيها هذا اللقاء ثم كتب مسرحية (( الإمبراطور والجليلى ))...
- يقول إبسن عن تلك المسرحية أنها (( أول عمل كتبته وأنا خاضع لتأثير العقلية الألمانية..، وكان لهذا التأثير قوة محولة وكانت نظريتى فى التاريخ والحياة الانسانية حتى ذلك الحين نظرية قومية، ولكنها اتسعت الآن وصارت نظرية عنصرية.. ولهذا استطيع ان اكتب مسرحية (( الإمبراطور والجليلى ))...
وتأتى مسرحية ((الإمبراطور والجليلي)) تعبيرا عن لقاء عنيف بتيارات الواقع.. فى إشارة غير واضحة لسطوته التى لم يخض إبسن معركته معها بعد، وان ذلك يبدو خلال الاضطراب المصاحب لهذا كله، نتيجة حتمية للصدام..
فى هذه المسرحية يتجاوز إبسن موقف الشاعر دون أن يحقق لقاءه بالواقع والمسرح..ذلك لأنه انتقل من موقف الشاعر إلى موقف المفكر... مفكر يكشف عن اضطرابه الشديد فى لقائه بتلك التيارات، ومبعث الاضطراب هو تمسكه فى الوقت نفسه بالإطار الثورى التراجيدى..
نحن ازاء خيال مفكر يخوض معركة واسعة يطرحها علينا بتعقدها واضطرابها فلسنا بإزاء عمل فنى والأمر يمكن أن نوجزه فى أننا ازاء انتقالية فكرية كان يحتاجها ابسن حيث كان قبلها شاعرا وعليه بعدها أن يتخذ سمات رجل المسرح..كانت فى الحقيقة مرحلة انتقال للتخلى عن الشاعر ومواجهة عصره باختياره المسرح....
ونستعرض المسرحية كما يلخصها بفهم «ألارديس نيكول» لنحس مباشرةً هذا الاضطراب الفكرى الذى تجيش به، والذى يتضح بوجه خاص من تعاطف شديد مع جوليان ثم انتهائه إلى الخروج عن الواقع التاريخى بالفعل ليدفعه، وذلك إنما يكشف عن أزمته هو شخصيا فى الالتقاء الخاضع لتيارات عصره وفى الوقت الذى يحمل فيه ملامح تراجيدية مناقضة فى النظر للتجربة الانسانية، وعليه أن يكتشف مصير هذه الملامح فيما بعد لقائه بنسيج الواقع العقلي...
«- يعرض لنا إبسن فى البداية شخصية بطل المسرحية الأمير «جوليان»، الذى كان يعيش أثناء حكم الإمبراطور ويميل إلى المسيحية، والأمير الشاب ذكى بهى الطلعة فخور بمهارته فى الجدل والمناظرة يعشق الجمال والحياة وفى الوقت ذاته تميل به روحه الكبيرة إلى التبرم بالمعرفة التى حصل عليها ويسعى وكله شغف وتوق إلى معلم إثر معلم محاولا دائماً أبداً أن يسبر أغوار الفكر الانسانى ويدلف إلى مجاهله، وينتهى به الأمر إلى مقابلة الصوفى (ماكسيموس) الذى يستحضر أرواحاً وراء غياهب الزمن، ويعرض على ناظريه صورة للإمبراطورية الثالثة...
ويفسر ماكسيموس هذا قائلا :-
- ماكسيموس : هناك ثلاث امبراطوريات
أولا هناك الامبراطورية التى تأسست على شجرة المعرفة ثم هناك الامبراطورية التى اعتمدت على شجرة الصليب.
- جوليان : والثالثة ؟؟
- ماكسيموس : أما الثالثة فهى امبراطورية السر العظيم، امبراطورية سوف تعتمد على شجرة المعرفة وشجرة الصليب معا، لأنها تكرههما وتحبهما سويا ولأنها تستمد حياتها من شجرة آدم ومن الصليب...
> ان إبسن فى الحقيقة يصل إلى نقطة حاسمة بمواجهته عالم الرومان بعالم المسيح ثم بتلك المزاوجة فى الحديث عن الامبراطورية الثالثة..
يبدو هذا نظرة جدلية مباشرة للتجربة الإنسانية، ولكن الأمر فى الحقيقة ليس يؤدى إلى تأكيد شئ من هذا بل يجرنا إلى سخرية، فمن خلال تصوره لرحلة جوليان، التى تكشف عن اضطراب وتعقد تفكيره هو مايصل إلى الكفر بطبيعة جوليان كما رسمها وتعاطف معها فى البداية، ويلقى بها فى أتون قوة غاشمة ليست بأحد القوتين الحقيقتين، قوة تجعل الأمر التباسا، ويبدو الموقف تحيط به أكذوبة لايتبينها، ان ذلك كان يعنى اهتزازه هو شخصيا بإزاء تجاوبه مع الواقع الحضارى من أحد وجوهه المضللة له، والمؤكدة للواقع، وهو مايصطدم باستعداده الثورى كما تمثله تجربة الشاعر المعزولة ولذا فليس التناقض هنا تراجيديا.
واننا نرى ابسن يردد فى هذه الفترة وهو بألمانيا تلك الكلمات الموحية بذلك :-
«هناك لحظات يخيل إلى فيها أن تاريخ العالم بأسره أشبه بحطام سفينة وأن الشئ الهام الوحيد هو أن ينجو الانسان بنفسه»...
لقد اطاح الصدام هنا بتجربة الشاعر - الشوق الحر العقيم وعزلته المحتومة - والذى كان قد عرضها للصدام اطارها الثورى الذى مضى به إلى المسرح فلفظ الواقع تجربة الشاعر فى المسرح ودفع به ليطل على عصره حيث يسلبه حرية الشاعر بوجه عبوس مختلط اللون.
وهذا ماحدث، فقد توقف إبسن بعدها فترة طويلة - أربع سنوات أخرى صامتاً - وقد أدرك أن عليه أن يودع الشاعر وأن يمسك باستعداده الثورى مجرداً، ويبدأ بالفعل فى تأكيد رغبة واضحة فى الابتعاد عن الشعر حيث يقول خلال هذه الفترة «الشعر بالغ الضرر بالفن الدرامى وليس من المنتظر أن يستخدم الشعر فى مسرحيات المستقبل»..
- فماذا تم فى هذا اللقاء المسرحى.. الذى تبدأ معه معركة إبسن الحقيقية ؟؟.

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي