أخر الأخبار

يوميات الأخبار

الشاكوش قبل الغناء.. أحياناً

داود الفرحان
داود الفرحان

ومن نعم الله على المشاهدين العرب أن هانى شاكر، ذا الصوت الجميل والوجه المريح، لم يمثل سوى ثلاثة أفلام فقط.

 تقول كلمات واحدة من الأغانى الشعبية المصرية فى العقد الماضى:
«لو تشرب يا منيل.. ها تحس إنك عيّل/ وبقيت تلعب بوكر.. وتشرب جونى ووكر/ شفته واقف فى البلكونة.. راح حدفنى باللمونة.. خلتها خلّ خالص»!
وكان المغنى الذى يرددها فى الحفلات العامة وحفلات الزواج وأعياد الميلاد والمصايف يعتقد أن أغنيته لا تقل عن مستوى «الأطلال» و»ثورة الشك» و»أراك عصى الدمع»! والدليل على ذلك أن الجمهور يتمايل ويتراقص ويتقافز ويصرخ على موسيقاها وكلماتها وأدائها.
فى كل الدول العربية هناك ما يعرف باسم أغانى «التاكسى» أو «أغانى الميكروباص». وهى تلك الأغانى الشعبية التى يفرضها السائق على الركاب بدون استئذان حتى وإن كانوا من الأجانب. ولا أعرف إلى أى مدى أكون مصيباً حين أقول أن ألحان هذه الأغانى وأصوات المغنين والتوزيع الموسيقى كلها متشابهة بحيث يصبح من الصعوبة بمكان أن تميز بين مغن وآخر ولحن وآخر. كلها دربكة وخبط وصراخ.
وهذا ليس رأيا شخصيا، فهناك كثيرون لا يطيقون سماع هذه الأغانى التى تسمى ظلماً بالأغانى الشعبية. بل لاحظت أن عدداً كبيراً من المستمعين البسطاء من عامة الشعب يسخرون من هذه الأغانى ومطربيها.
ومنذ أيام المرحوم الشيخ عبد الباسط عبد الصمد صاحب الصوت المعبر فى تلاوات القرآن الكريم، لم نسمع أحداً فى الإذاعة والتليفزيون يحمل اسم عبد الباسط إلى أن ظهر قبل سنوات مطرب شعبى مصرى جديد اسمه «عبد الباسط حمودة». وهو صرح بأنه حقق نجاحاً كبيراً بهذه النوعية من الأغانى. ويصف عبد الباسط الجمهور المعجب به بأنه «واع» و»يحترم الفن». وليس لدى اعتراض على ذلك.
 إصلاح وتهذيب
وإسلام خليل كان الشاعر الخصوصى للمغنى الراحل شعبان عبد الرحيم. وشعره كلام شعبى و»أفيهات» مقفاة وموزونة مثل تلك الجمل الطريفة التى يتبادلها صبى القهوجى مع الزبائن. إلا أنه يعتقد أن أشعاره حكم ومواعظ ودروس ضد الجريمة والمخدرات والاحتلال الأمريكى والاحتلال الصهيونى. وله أغنية عنوانها «أبو أمك» ومن يسمع هذا العنوان يتخيل أن المغنى يشتم شخصاً أزعجه أو رفض إعادة الدَين الذى عليه، إلا أن مطلع الأغنية يقول «أبو أمك ده يبقى جدك.. احترمه زى أبوك». إذن نحن أمام أغان تربوية وتعليمية يصح معها أن نقول إن الغناء الشعبى، مثل السجون، إصلاح وتهذيب. كما أنها أغنيات علمية كتلك الأغنية التى يقول مطلعها «العربية ما تمشيش من غير بنزين.. زى البشر لما ياكل سردين».
 قوارب النيل
وكثيراً ما اعترض الموسيقار حلمى بكر على «أغانى التاكسى والميكروباص وقوارب النيل» ويقول إنها لا تمت بصلة للأغانى الشعبية، وكُتـّابها لا يملكون الثقافة لصناعة أغنية شعبية حقيقية وهم ليسوا سوى أميين أو طبالين. ويتفق شعراء على أن مؤلفى تلك الأغانى «عشوائيون» ولا يملكون غير قاموس المفردات ذات الإيحاءات «الخادشة» التى يتلقفها المراهقون والناس البسطاء ويعممها سواق سيارات الأجرة وحتى الشباب من سواق السيارات الخاصة.
والصدمة التى يجب أن نتوقف عندها هى إن شرائط هذه الأغانى تحقق مبيعات هائلة مقارنة بمبيعات متواضعة لمغنين كبار تُسرق أعمالهم عبر الإنترنت قبل أن تنزل إلى الأسواق. وخطورة هذه الأغانى أكثر حين تتم إذاعتها فى القنوات التليفزيونية الأرضية والفضائية بعد تصويرها وإضافة التوابل المعتادة إليها من راقصات وملابس والشخص الذى سيمثل دور «أبو أمك»!
وسمعتُ موسيقاراً يقول إن هذه الأغانى ما هى إلا «إيقاعات راقصة ليست لها قيمة أو هدف ولابد من اقتلاعها من جذورها». غير أن اقتلاعها لا يمكن أن يتم بسهولة، وهو حلٌ دكتاتورى، لأنه لابد من «تفهم» وجهة نظر هؤلاء المؤلفين أو المغنين.
ومصطلح «الأغانى الشعبية» ليس علمياً ولا دقيقاً ولا صحيحاً. هل أغانى كوكب الشرق أم كلثوم أو موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب أو العندليب عبد الحليم حافظ ليست شعبية لأنها لا تتضمن معانى أو مفردات «سوقية»؟ وحتى لا نحصر الموضوع فى مصر، هل أغانى «جارة القمر» فيروز أو «صوت الجبل» وديع الصافى أو «شحرورة الوادى» صباح أو «مطربة المثقفين» ماجدة الرومى أو «ملك العود» فريد الأطرش غير شعبية؟
فاصل نكدى
منذ سنوات يتمادى بعض النقاد الفنيين بإطلاق الألقاب على المطربين والممثلين، وهو أمر شائع حتى فى الخارج. وسبق أن أطلق أحدهم على المطرب المصرى هانى شاكر لقب «مطرب النكد» لأن معظم أغانيه حزينة وبكائية ونكدية. وهو يصف نفسه بأنه ملك الأغانى العربية الحزينة التى اشتهر بها. وتحكى كلمات أغانيه قصص الحب الفاشلة والأمل الضائع واللوعة والهجر والكذب والخيانة. وهو فى هذا «يوسف وهبى» الغناء! مع الاحترام للإثنين.
وعلى صعيد المطربات لا تنافسه فى هذا اللون الحزين سوى المطربة الجميلة المعتزلة نجاة الصغيرة التى تعتبر «أمينة رزق» الغناء! ولابد من الاعتراف بأن هناك جمهوراً واسعاً للأغانى العاطفية الحزينة والمأساوية. ويسعى بعض المغنين والمطربين إلى استغلال الظروف العامة القاسية فيوظفها فى أغانيه لتحقيق شهرة سريعة.
نزل الدمعاية نزل
يقول هانى شاكر مدافعاً عن نفسه منذ سنوات: «إنه يميل إلى أغانى الدراما الرومانسية على الرغم من إنها لا تحقق النجاح السريع ولكنها تحقق نجاحاً على المدى الطويل وتعيش مع الناس، وأرى أن اللون الدرامى والأغانى التراجيدية الحزينة والكلاسيكية التى فيها شجن أو موضوع درامى قليلة جداً اليوم، وفرسان هذا اللون قليلون على الساحة الفنية». ومن نعم الله على المشاهدين العرب أن هانى شاكر، ذا الصوت الجميل والوجه المريح، لم يمثل سوى ثلاثة أفلام فقط هى «عندما يغنى الحب» أمام صفاء أبو السعود و»عايشين للحب» أمام نيللى و»هذا الرجل أحبه» أمام نورا. ومن رحمته سبحانه وتعالى أنه لم يمثل سوى مسرحية واحدة مع نيللى تاب إلى الله بعدها عن الصعود إلى خشبة المسرح! الطريف أن إحدى أجمل أغانى هانى شاكر عنوانها «علـّى الضحكاية علـّي» ومع ذلك فلسان حاله يقول «نزل الدمعاية نزل»!  وحين سألته إحدى مقدمات البرامج التليفزيونية عن «سر» الحزن فى أغانيه قال إن الحزن يسرى فى دمائنا وهو أمر جميل ومحبب فى الطرب. إلا أن المقدمة ردت بأن المستمعين العرب لا يطربون لأغانى الهجر إلا إذا كانت المطربة هى أم كلثوم. وفى اليوم التالى ظهر هانى شاكر فى التليفزيون وهو يغنى صارخاً «غلطة وندمان عليها»!
 > كاتب عراقى مقيم بالقاهرة