صدى الصوت

«حلب» تلفظ الهمج!

عمرو الديب
عمرو الديب

 جحافل الليل انجلت وتبددت، وعصابات الحقد الرهيب قد اندحرت، وهاهى ذى تعود إشراقة «حلب»، بعد طول عبوس، ودوام قتامة وكآبة، تلك الشهباء وطن الشعراء، وملاذ البلغاء، وقلعة المرابطين على الحدود والثغور يذودون عن أوطانهم غارات الهمج، ويعرقلون دائمًا مسير الغزاة الطامعين، المدينة الحسناء التى زرتها مرارًا وتكرارًا على أجنحة القصائد المحلقة فى الأجواز الشاهقة، وعلى بساط المصادر المرموقة والأسفار الشيقة، وتعرفت عليها وأنا أتوغل فى أدغال التواريخ البلدانية القيمة، وموسوعات التراجم الهائلة، راحت هذه البلدة الكريمة ومنطقتها الفسيحة تزيح أستار العتمة، وتنفض عن وجهها غبار الانكسار، وبدأت خيوط الضوء تنساب فى الأفق، وأخذت «الشهباء» تتنفس الصعداء، فقد عادت المدينة الجسورة الجريحة إلى دفء وطنها، وارتمت أخيرًا فى أحضان ناسها وأهلها، واستلقت على عشب الاستقرار تحلم بالنهار الآتي، وتستعيد مشاهد المجد العريق، وذكريات الأمسيات المشهودة، ففى كل شبر حكاية، وعند جل منعطف تكمن رواية، فهاهنا وقف أمير شعراء العربية فى شتى عصورها ينشد قصائده المذهلات، وفى مجلس «سيف الدولة» ارتفع صوته الأخاذ بأعذب الأبيات وأبرع العبارات، وهاهنا تبارى الشعراء، وهم يعزفون على أوتار العربية أخلد القصائد، وأجمل المنظومات، ألم تكن «حلب» من قبل المتنبى هى أفق صعود الشاعر الأشهر «البحتري»المكين، الذى ولد على مقربة منها، متخذا إياها منصة انطلاق إلى آفاق الدنيا، ألم تسعد الليالى باستنشاق عبير قصائده المبدعات، تماما كما تمايلت القلوب فى أمسياتها المؤنسات بأعذب ما نظم شاعر العربية الفذ «أبو تمام»، وألم تكن قاعات مجالسها حاضنة لأشهر المعارضات والمفاخرات والمناظرات التى احتفظت لنا المصادر القيمة بشذى أخبارها، وحرارة وقائعها وأنبائها، نعم «هى حلب «درة البلدان، ومرتع الوجوه الحسان، وأحد أبرز آفاق الحضارة العربية الإسلامية التى لا تعرف الإرهاب أو الهمجية، فى أكنافها زغرد الشعر، وابتهج الأدب، وتلألأت العلوم العقلية والنقلية، فى عصور تتالت لتحكى للأجيال ملحمة حضارة أهدت إلى الدنيا نبلها ورقيها، وإلى الإنسانية تفوقها ونبوغها، ومثلت مع شقيقاتها فى مصر الكنانة وبغداد العلامة، ودمشق الفيحاء منارات تسطع بإشعاع الحضارة، التى تثير دائمًا طمع الجشعين، وحنق الحاقدين من أسراب الجراد الهمجى.. ملتهم حصاد الحضارات، ولتهنأ الأوطان باسترداد «حلب» من فم الضياع وأنياب الضباع، ولتفرح مصر الكنانة، وشتى ربوع الشام البسام.