حديث الأسبوع

حينما تشعر أوروبا بتخلفها

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

لا يخفى مسئولو الاتحاد الأوروبى قلقهم البالغ من تخلف دول الاتحاد فى مجال الذكاء الاصطناعى مقارنة مع ما يجرى فى الولايات المتحدة الأمريكية، وفى جمهورية الصين، وفى بعض دول آسيا، وهم يراقبون بذهول كبير ارتفاع تكاليف الاستثمار فى هذا المجال فى كل هذه المناطق من العالم، بيد أنهم يواجهون شحا غير مبرر من طرف دول القارة العجوز التى تحلم بالريادة فى هذا الشأن، لكن عدم إدراك صانعى القرار الأوروبى المراهنة الكبيرة التى أصبح عليها الموضوع يبعد تحقيق هذا الحلم فى المدى المنظور. فقد أوضحت المعطيات المتعلقة بهذا الصدد أن الولايات المتحدة الأمريكية خصصت سنة 2016 ما قيمته 12،1 مليار يورو للاستثمار فى مجال الذكاء الاصطناعي، وخصصت بعض من دول آسيا ما يفوق 6،5 مليار يورو لنفس الغرض وخلال نفس السنة، بيد أن المخصصات المالية التى رصدتها جميع دول الاتحاد الأوروبى لم تتجاوز خلال نفس العام ما مجموعه 3،2 مليار يورو، وهى معطيات تكشف حجم التفاوت فى الاهتمام الفعلى بقضية مستجدة تزداد أهمية، وتقيس انشغال المجتمع الدولى بها. ولعل القلق الأوروبى كان واضحا ومتجليًا فى الأهمية الاستعجالية، التى أولتها المفوضية الأوروبية الجديدة وهى الوزيرة الألمانية السابقة، التى سارعت إلى إعلان مبادرة فى هذا السياق قبل أن تكمل يومها المائة فى منصبها الأوروبى الجديد، وهو السلوك الذى وصفه بعض المنتقدين لها بالتسرع وطالبوها بالتريث، وركزت مبادرة المفوضة الأوروبية الجديدة على ما سمته (الآثار الإنسانية والأخلاقية للذكاء الاصطناعي)، ويتعزز القلق الأوروبى فيما أقدمت عليه أيضا المفوضة الأوروبية المكلفة بالسوق الداخلية، حيث عرضت قبل يومين ما سمتها (الاستراتيجية الأوروبية فى مجال الذكاء الاصطناعي)، فى محاولة جديدة للتحسيس بمخاطر التخلف الأوروبى فى السباق نحو التحكم فى مفاتيح المستقبل. وإن حاولت المسئولة الأوروبية الدخول على خط هذه القضية التى يزيدها العامل الزمنى اشتعالا من باب الحديث عن (أخلاقيات الذكاء الاصطناعي)، والإعلان عن استعداد المفوضية الأوروبية اقتراح قواعد جديدة فى هذا المجال، وتطبيقها فى القطاعات الأكثر خطورة مثل الرعاية الصحية والنقل. وربما كانت وكالة (بلومبرج) أكثر وضوحًا حينما ذكرت أن «الوثيقة التى أعدتها المفوضية الأوروبية تندرج فى إطار مساعى الاتحاد الأوروبى لمواكبة جهود الصين والولايات المتحدة فيما يتعلق بتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، ولكن على نحو يتوافق مع القيم الأوروبية مثل الحفاظ على خصوصية المستخدم على سبيل المثال»، وفى هذا التذكير إشارة واضحة ومقروءة إلى انشغال دول الاتحاد الأوروبى بالتفوق الأمريكى الصينى فى مجال الذكاء الاصطناعي، وإن تم ذلك باستحضار لأحد أهم الإشكاليات المستعصية المرتبطة به.
ما قد يفسر انشغال حكومات دول الاتحاد الأوروبى بالتخلف الأوروبي، فى مجال السباق العالمى المحموم نحو التقدم بخطوات كثيرة وكبيرة فى عالم الذكاء الاصطناعي، هو إدراكها بأن تحقيق التطور فى هذا الصدد يعنى امتلاك مفاتيح السيطرة على المستقبل والتحكم فيه، إنه يعنى التفوق فى سيطرة الآلات وتوارى دور الإنسان فى إدارة مختلف مظاهر الحياة الإنسانية الاقتصادية منها والاجتماعية، بما يعنى ذلك من تحكم كامل فى عصب الاقتصاد العالمى والامتلاك المطلق للقرار الاقتصادى والمالى فى مختلف أصقاع المعمور.
نعم، إن قضية الأخلاقيات فى مختلف مناحى ومجالات التطور التكنولوجى الحاصل والمتجدد كل لحظة وحين، تمثل جيلا جديدا من الإشكاليات المستجدة، ولكن الذى يطرحها يعلم قبل غيره استحالة توفير أجوبة مقنعة وواضحة للأسئلة المحرجة المتفرعة عنها، مادام لم يتحل المجتمع الدولى بالجرأة والشجاعة الكاملة التى يجب تصريفها فى منظومة قوانين مؤطرة وصارمة ترسم حدودًا دقيقة لعلاقة مظاهر التطور التكنولوجى بمختلف القضايا، من قبيل الخصوصية البشرية، والقيم الإنسانية، وكرامة الفرد والجماعة، والحفاظ على حرية الفرد والمجموعة نفسها من جهة، وفى مواجهة الإكراهات الخارجية سواء تمثلت فى السلطة السياسية أو الاقتصادية أو الدينية أو العرقية من جهة ثانية. ويدقق المتخصصون بشكل أعمق فى تفرعات هذا الجيل الجديد من الإشكاليات، خصوصًا ما يتعلق بسرية البيانات وبحريات الاختيار والضمير، وملاءمة حرية التصرف مع الرغبات المتوقعة والموجهة، وضمان عدم تكرار الصور النمطية الاجتماعية والثقافية فى برامج الذكاء الاصطناعي، سيما ما يخص التمييز بين الجنسين، وبالتعامل مع القيم، وبقضية المساءلة والمحاسبة خصوصًا حينما تكون القرارات والإجراءات مؤتمنة بالكامل، وبقضية احترام مبادئ الشفافية والمساواة وغيرها من الاهتمامات المقلقة المترتبة عن السباق نحو قطع أكبر مسافة فى المسار نحو التحكم فى الذكاء الاصطناعي.
هكذا تبدو الصورة أكثر وضوحا فى سعى دول الاتحاد الأوروبى للحاق بالصين وبالولايات المتحدة وببعض دول آسيا، خصوصًا سنغافورة وماليزيا وغيرها فى مجال الذكاء الاصطناعي، فالطرف الأكثر ضعفا فى معادلة توازن القوى فى امتلاك هذا التحول العميق فى بنية الوجود البشرى هو الذى يبدو أكثر انشغالا بالإشكاليات الأخلاقية المترتبة عليه، قد تكون الرغبة فى الحد من السرعة المهولة التى تسير بها الأطراف الأخري، كما قد تكون إرادة فتح واجهة من الواجهات المهمة المرتبطة بصلب القضية من خلال النقاش الذى لم يعد يفيد البشرية فى قضايا عالمية أخرى كثيرة، وقد يتعلق الأمر أخيرا بمحاولة فرض جدول أعمال معين أمام الرأى العام الدولى يلهيه عن الاهتمام بقضايا مصيرية تهم راهنه المعيش.