التجربة المصرية حل مناسب للأزمة الاقتصادية السودانية 

أسواق سودانية
أسواق سودانية

دراسة: د. محمد شادي

اعتمدت الحكومة الانتقالية السودانية بقيادة الدكتور عبد الله حمدوك، الموازنة العامة السودانية لعام 2020، مُباشرة على أعتاب العام الجديد فى 27 من ديسمبر 2019، قاطعة علاقاتها بالسياسات المالية مع نظام البشير، حيث عملت على تحقيق المطالب الاجتماعية التى كانت المُحرك الأساسى للثورة والدافع من خلفها، ويأتى اعتماد الموازنة العامة الجديدة فى ظل تحديات اقتصادية ضخمة يوجهها الاقتصاد السودانى بشكل عام تتمثل فى انخفاض مُعدلات النمو وارتفاع مستويات التضخم والبطالة .


و تُظهر المؤشرات الكُلية للاقتصاد السودانى حجم التحدى الكبير الذى يواجه الحكومة الجديدة، إذ تُحاصره مُعدلات نمو سالبة ومُعدلات بطالة وتضخم فى اتجاه صعودى .


مُعدلات النمو


نمى الاقتصاد السودانى فى المتوسط بمُعدل 4.7% خلال الفترة من 1990-2018، وكانت الفترة ما بين 2013-2017 قد شهدت استقرار هذه المُعدلات فبلغت أقصاها عام 2015 عند مُعدل 4.9%، لكنه ما لبس أن تراجع فى عام 2018 لينكمش بمُعدل -2.2% الأمر الذى يعنى تراجع للنشاط الاقتصادى بوجه عام على مستوى البلاد، ويتوقع صندوق النقد الدولى استمرار الانكماش خلال عام 2019 والعامين القادمين وحتى عام 2021 وعدم عودة الاقتصاد للنمو مرة أخرى قبل عام، وهو ما ينعكس على جميع المُؤشرات الاقتصادية الأخرى بالسلب وأخصها مُعدلات التضخم والبطالة.


نسب البطالة


مُعدلات البطالة بين الشباب التى بلغت فى المتوسط خلال نفس الفترة 29.7%، وظلت دون تغيُر ملموس مُنذ عام 2009 إذ انحصرت ما بين 26 و27% من إجمالى الشباب فى المُجتمع، الأمر الذى يعنى أن ثلث الشباب السودانى عاطل عن العمل، وقد شكل المُحرك الأساسى للاحتجاجات ضد حكومة البشير.


واستهدفت الحكومة الانتقالية عند تقديمها موازنة 2020، تحقيق أهداف الثورة وذلك بزيادة الإنفاق الاجتماعي، وكان من أهم مظاهر ذلك رفع مُخصصات الصحة والتعليم لضعف ما كانت عليه فى 2019، الالتزام بمجانية التعليم الأساسي، الالتزام بمجانية العلاج بالطوارئ والمُستشفيات الحكومية، مُضاعفة بند الأجور، رفع الحد الأدنى للأجور إلى أكثر من الضعف. وتستهدف الحكومة تحقيق ذلك عبر رفع مُضاعفة الإنفاق الحكومى الجارى بأكثر من 280% عما كان عليه فى 2018 وذلك برفعه من 205.3 مليار جنيه سودانى إلى 584.3 مليار، وتغطية ذلك برفع الإيرادات عن العام السابق بنسبة 340% تقريبًا، من مستوى 164.8 مليار جنيه سودانى إلى 568.3، وهى أرقام صعب للغاية تحقيقها حتى فى ظل نسب التضخم المُرتفعة التى تضرب الاقتصاد السودانى فى الوقت.


وتعتمد الحكومة فى تمويل هذا الإنفاق الضخم أساسًا على المنح الخارجية التى يُتوقع بلوغها 156 مليار جنيه فى 2020 بعدما كانت قد بلغت 13.6 مليار فى 2019، وكذلك ارتفاع بند الإيرادات الأخرى والذى يتشكل من عوائد الملكية العامة وخاصة فوائد الهيئات العامة وأرباح الشركات الحكومية، بالإضافة إلى الرسوم الإدارية ورسوم عبور نفط جنوب السودان لتبلغ 253 مليار جنيه بعدما كانت تبلغ 37 مليارا فى 2019، وأخيرًا ارتفاع الحصيلة الضريبية إلى 159 مليارا من 114.1 مليار دولار. وحقيقة الأمر أن تحقيق هذه الإيرادات من الصعوبة بمكان خاصة مع الظروف الاقتصادية الصعبة التى تمُر بها الدول الخليجية - المصدر الأساسى للمنح- واتجاه هذه الظروف لمزيد من التعقيد بسبب الانخفاض المُستمر للنفط وما يُشكله من عبء على موازنتها العامة. ويظل نفس التحدى قائم بالنسبة لبند الإيرادات الأخرى إذ من غير المُرجح أن تُدر الهيئات العامة والشركات الحكومية أرباحًا بهذا القدر خاصة فى ظل الانكماش المتوقع فى الناتج المحلى الإجمالى من ناحية وانخفاض القدرة الشرائية للمواطن بسبب ارتفاع نسب التضخم، إلا إذا اتجهت الحكومة إلى خصخصة جزء مُعتبرًا من هذه الشركات، لتوفير هذا القدر من العوائد.


التجربة المصرية


تواجه الحكومة السودانية فى الوقت الحالى نفس ما واجه مصر من تحديات عقب ثورة 30 يونيو وأهمها على الإطلاق الاختلالات الهيكلية التى سيطرت على الموازنة العامة فى ذلك الحين والتى كان من بين أبرزها الدعم غير الرشيد للوقود والسلع التموينية بالإضافة إلى الزيادة مُفرطة السرعة فى مُخصصات الأجور والفوائد، وهو ما تصدت له الحكومة المصرية عن طريق إعادة توزيع مُخصصات الدعم بحيث أصبحت أكثر رشادة تمثلت فى خفض دعم الطاقة والاتجاه للدعم النقدى للفئات الأكثر استحقاقًا، ومن ناحية الأخرى السيطرة على الزيادة المُفرطة فى الأجور الحكومية بحيث ظلت الزيادة عند مستوى 5% خلال سنوات برنامج الإصلاح الثلاث بداية من 2016/2017 وحتى 2019/2020، وهو ما أدى إلى خفض العجز الاولى فى المرحلة الأولى من البرنامج وتحويله لاحقًا إلى فائض، كذلك انخفض الحجز الكُلى إلى مستويات قياسية من الناتج المحلى الإجمالى بلغت 8.4% بنهاية 2018/2019.


وختامًا فإن الطريق التى تنتهجها الحكومة السودانية الانتقالية هى طريق محفوفة بالخطر اقتصاديا حتى إن نجحت فى توفير الإيرادات التى توقعتها حيث ستظل تحتفظ بالتشوهات الهيكلية للنظام السابق، وحتى إن كان فى ذلك إرضاء للمُتظاهرين وخفض للتوترات السياسية، وهو مسعى نتمنى من الله أن يتوجه بالنجاح، لكن على الحكومة الحالية أن تنظر للتجربة المصرية بعين الاعتبار خاصة فى ضوء النجاح الباهر الذى أسفرت عنه.