يوميات الأخبار

شجون صحفية

علاء عبدالهادى
علاء عبدالهادى

«بمجرد أن تبدأ الراقصة فى هز الوسط تتحول النظرات المسروقة إلى عيون مفنجلة».

فى يوم ٢٣ يونيو ١٨٩٣م كان الاسطول البريطانى يقوم بمناورات أمام مدينة طرابلس فى لبنان، فاصطدمت سفينة حربية اسمها فكتوريا بسفينة أخرى أسمها كمبرتون، وصدر بلاغ رسمى من وزارة البحرية فى لندن يفيد بغرق الباخرة فكتوريا دون ذكر تفاصيل عن عدد الوفيات أو المصابين، أو خسائر الحادث وأسبابه.
لم تهضم معدة الصحفيين الخبر وتساءلوا عن أسباب غرق «فكتوريا» أكبر سفن الاسطول البريطانى، وكيف تغرق هكذا من دون ان تخوض معركة حربية، زاد من جو الاثارة أن وزارة البحرية البريطانية قامت بعمل «بلاك أوت» وتعتيم على التفاصيل.
ذهب ديفيد جراهام فيلبس المراسل الصحفى الأمريكى لجريدة «نيويورك ورليد» فى لندن لكل المصادر بحثاً عن تفاصيل تميط اللثام عن الحدث دون جدوى.. ماذا فعل فيلبس؟ هل يئس أوأرسل برقية لصحيفته يعتذر فيها عن عدم وجود أية معلومات؟
استخدم فيلبس غريزته الصحفية- كل صحفى حقيقى لديه أنف يشم بها الخبر، ويستشعر السبق ويكاد يلمسه - وبدأ يفكر ماذا يفعل.. ارجوك أرجع معى بالزمن ١٣٧ سنة بالتمام والكمال . حيث كان التلغراف هو أحدث وسائل التواصل وأعظمها.. طرابلس مجرد مدينة ساحلية تبعد عن بيروت ٤٠ كيلو و ٧٠ كيلو عن دمشق ، وليس بها قنصل أجنبى يمكن الاتصال به.. ما الحل إذن؟
تفتق ذهن فيلبس عن حيلة عبقرية وقرر أن يجربها، وكتب تلغرافاً إلى مسئول تلغراف طرابلس يعرض عليه ٥٠٠ دولار مقابل وصف لحادث غرق السفينة!!
سخر موظف التلغراف فى لندن من فيلبس وقال له: هذا الرجل عربى لا يعرف الانجليزية ولبنان تابعة لتركيا ـ فى ذلك الوقت - كما أن الرجل بالتأكيد لم يسمع فى حياته عن جريدتك الأمريكية؟
أرسل التلغراف ومرت أول ٢٤ ساعة من دون رد!
وفى الساعة ٢٥ جاء تلغراف بالرد: ابعثوا النقود مقدماً بالبرق، وسنرسل المطلوب.. حاول الصحفى أن يرسل المبلغ ولكن لم تكن هناك اتفاقية لتغطية الحوالات التلغرافية.. لم ييأس ورد بتلغراف: سنكون مدينين لك بالمبلغ وبرقيتك ستكون أول وصف للحادث على مستوى العالم!.. مضت ٢٤ ساعة أخرى وبدأت البرقيات تتوالى بوصف للحادث وتبين مصرع ٣٣٦ ضابطا وجندىا بريطانىا بسبب قرار خاطئ لقائد الأسطول الذى أعطى أوامر للسفينة باللف فى وقت غير مناسب.. ونشرت الجريدة الأمريكية التقرير، وانقلب العالم رأساً على عقب، وقامت ضجة فى الصحف البريطانية تستنكر انفراد جريدة أمريكية بالخبر الذى وقع فى البحر المتوسط لأسطول بريطانى.
 لم تنته المفاجآت بعد.. إذ تشكك الجميع فى رواية فيلبس واضطر أن يخاطب مصدره السرى: بيير .. فمن هو بيير هذا؟
هو الأمريكى الوحيد الذى كان يوجد فى طرابلس، وتصادف وجوده فى مكتب التلغراف عندما طلب منه العامل أن يقرأ له تلغرافا مكتوبا بلغة أجنبية.. الجميل فى الأمر أن بيير كان هو الطبيب الذى استنجدوا به ليسعف المصابين.. الأكثر غرابة أنه بحث فى جيبه عن مال ليرسل به التلغراف فلم يجد، وكاد العامل أن يغادر لولا إصرار بيير.
هذا الصحفى أصبح أشهر صحفى فى العالم فى القرن التاسع عشر ووصل بسبب هذا السبق إلى مقعد رئيس التحرير.
الإصلاح
رحلة الصحافة طويلة، وعريقة وممتدة، وما فعله ديفيد فيلبس قبل ١٣٧ عاماً مازال كل صحفى مطالبا أن يفعله مع اختلاف بسيط وليس جوهرياً، وهو اختلاف الوسيط، والتقدم المذهل فى وسائل التواصل، وفى كلتا الحالتين ما كان يمكن للرأى العام أن يعرف الحقيقة ما لم يكن هناك صحفى يمتلك أدواته، ويستشعر المسئولية ويحاول «ويعافر» ويتتبع مصادر أخباره، ويدققها، ويمحصها، فى مصر نحتاج إلى مثل هذه النوعية من الصحفيين أصحاب الرسالة.
الصحافة الورقية تعيش هذا الأيام أصعب مراحلها، وأصبحت على المحك: إما .. وإما.. الصحف القومية عليها رسالة ومسئولية، ولا يمكن لغيرها أن يؤدى الرسالة التى تقوم بها، ولكن ليس من المنطقى أن يحاسب الجيل الحالى على ضرائب وفواتير كهرباء وماء لم يؤدها من سبقونا ونحن مازلنا أطفالاً، أو لم نولد بعد!!
نحن مطالبون بتسديد فواتير من الستينيات (؟!)
الحديث عن الصحافة الورقية، ليس حديثاً نخبوياً أو فئوياً، الصحافة الورقية القومية أحد أهم أدوات قوة مصر الناعمة، وتهم كل مواطن مصرى لأنها بمثابة «بوصلة» تهدى عندما يشتد الظلام، وتضبط الإيقاع إذا حاد البعض عن الجادة يميناً أو يساراً..
لذلك فما أكتبه الآن - يهمك عزيزى القارىء - حتى لا يأتى فيه يوم لا تجدنا فيه.
سلسلة الاجتماعات التى تجريها الهيئة الوطنية للصحافة هذه الأيام مهمة جداً ً.. اجتماعات تستهدف إنقاذ المركب بمن فيه.
ما خرج عن الاجتماعات طيب ومبشر فى مجمله، ولكنه يبقى مرهوناً بالتنفيذ.
كوكايين المهرجانات
- أيوه عندنا انفصام فى الشخصية
نسب الراقصات، وننتقد ملابسهن الخليعة التى تكشف اكثر مما تستر، ونتعامل بالهمز واللمز على حركاتهن المثيرة، ومع ذلك جعلن منهن سيدات مجتمع، ورفعناهن فوق الرءوس، وأول ما تبدأ الراقصة فى «هز وسطها» فى أى فرح تجد الشوارب قد اهتزت، وأن النظرات المسروقة قد تحولت إلى عيون «مفنجلة» «وهات يا رقص، وطبل وزمر وتصفيق» كله رجالة، وسيدات متبرجات ومحجبات، وحتى منتقبات يتمايلون مع الراقصة ولا مانع من «السيلفى».
ننتقد أغانى المهرجانات، ونتأفف من كلمات وأغانى هؤلاء الذين أهانوا الذوق العام، والغناء والطرب، وحطموا كل القواعد، وداسوا على كل القيم وراحوا يصبون بودرة وهيرويين وكوكايين  فى آذان من يستمعون لهم، يخربون أجيالا لا تعرف للكلمة قدسية، ولا للكلمة قيمة، وللأسف نجرى وراءهم، ونرقص، ونغنى ونسمعهم فى السيارة، وفى البيت والغيط!!.. نسبهم فى صحفنا، ونرقص على كوارثهم ليلاً فى الأفراح والليالى الملاح.. نحاصرهم فى الفضائيات، ونأتى بهم إلى أفراحنا ونبحث عن هزلهم على «اليوتيوب» حتى حولناهم إلى نجوم يجنون  الملايين فى لمح البصر وما صنعه أحدهم بأغنية لا يصنعه 1000 عالم منذ أن جاءوا إلى الدنيا، وإلى أن يغادروها.
- عاجبكم شاكوش وبيكا وحمو؟
لا تبكوا إذا على ذوق أولادكم، ولا تسألوا عن تدنى الأخلاق، فماذا تنتظر من أراجوز يعلم ابنك أنه إذا أراد أن ينسى حبيبه فليس أمامه  سوى المخدرات والحشيش.
النقيب الفنان المحترم هانى شاكر يخوض حرباً مقدسة نيابة عنا جميعاً.
أغانى المهرجان أخطر من الكوكايين!
التهريج القاتل
أفزعنى المشهد وكاد أن يطير عقلى من خطورة ما رأيت.
مجموعة من تلاميذ مدرسة إعدادى بجوار بيتى يتحلقون حول ثلاثة من زملائهم يقفون فى منتصف الدائرة وهناك من يصور، وهناك من يصفق، ويصرخ لتسخين الاجواء يقفز الثلاثة إلى أعلى، ويقوم الاثنان على الأطراف بركل من هو فى المنتصف ليسقط إما على ظهره أو مقعدته، أو رأسه، وفى كل الأحوال هناك خسائر كارثية محققة، لم يلتفت الطلاب إلى صراخى من بلكونة منزلى، وأنا أرى أحدهم سقط وارتطم رأسه برصيف الشارع، وقام يتخبط فاقد الوعى، والتركيز على وجهه ابتسامة صفراء وسط ضحكات زملائه إنها كارثة جديدة، وما أكثر كوارث هذا الزمان اسمها تحدى «كسر الجمجمة» انتشرت بين المراهقين انتشار النار فى الهشيم من خلال تطبيق «التك توك». حاولت احصاء نتائج هذه المزحة القاتلة وجدتها كثيرة، ومع ذلك فهى مثل كثير من الصرعات يحاول المراهقون وصغار السن التقليد الأعمى.
أعجبنى دخول مرصد الأزهر الشريف على الخط بسرعة، وتحريم هذه اللعبة تطبيقاً للآية الكريمة «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة».
تحضير الأرواح بالواقع الافتراضى
- هل يمكن أن نتواصل مع الأحباب الذين سبقونا ورحلوا؟
التاريخ يحدثنا عن أناس أصحاب قدرات خاصة فى تحضير أرواح من رحلوا، بحيث يحلون ضيوفاً لفترة يقولون ما يريدون ثم يذهبون  لحال سبيلهم.. هناك من يصدق جلسات تحضير الأرواح، وهناك من يؤكد أنها دجل فى دجل ونصب فى نصب.
وهناك من لديهم شفافية رؤية الراحلين فى منامهم ويستقبلون منهم الرسائل، والإشارات والايماءات ولدينا علماء أو دجالون - حسب رؤيتك - فى تفسير الأحلام.
العلم دخل على الخط مؤخراً لاستحضار أرواح الحبايب الذين رحلوا باستخدام تقنية الواقع الافتراضى.
العلم جعل المستحيل ممكنا وباستخدام تقنية «الهولوجرام» استمتعنا قبل شهور قليلة بحفلة معتبرة لأم كلثوم تشدو فى حضور فرقة موسيقية وهى تتوسطها، ترفع يدها طرباً بالمنديل الشهير الذى كانت تحرص على أن تمسك به وتتمايل... ماذا ينقصنا لنشعر أن أم كلثوم من لحم ودم بيننا؟
الدنيا مقلوبة فى كوريا الجنوبية على أم تواصلت مع ابنتها باستخدام تقنية الواقع الافتراضى.. كيف؟!
فقدت يانج جى سونج ابنتها نا - يئون قبل ٤ سنوات، ومثل أى أم حطم رحيل ابنتها قلبها.. فريق علمى قرر أن يخوض تجربة تخفيف آلام الفراق على الأم التى تحتفظ برماد ابنتها فى جيبها وعلى مدار ٨ شهور استعان الفريق بصور للطفلة، وفيديوهات لها، واستطاعوا باستخدام بصمة صوتها، وحركاتها وإيماءاتها إعادة إنتاج تقنى للطفلة!
وباستخدام تقنية «الواقع الافتراضى» تحاورت الأم مع ابنتها التى قابلتها فى حديقة عامة، كلمتها وردت عليها بنفس نبرات الصوت والشكل وكأنها عادت من العالم الآخر.
اللقاء تابعه العالم، وكانت أصعب مشاهد، والأم تحتضن ابنتها حضناً افتراضياً يعقبه رحيل الطفلة من جديد لتتحول إلى فراشة.هل أنت مع هذا النوع من التكنولوجيا  لاستحضار حبايبنا الذين رحلوا؟
هل مثل هذا اللقاء يبرد نار الفرقة أم يزيد لوعة الفقد؟
التكنولوجيا اغتالت كل المشاعر الإنسانية بما فيها الحزن النبيل.

 

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي