فى الفكر والسياسة

إعادة هندسة النخبة والجماهير

د. محمد السعدنى
د. محمد السعدنى

«على الموتى القدامى أن يفسحوا مكاناً للموتى الجدد» عبارة لخصت مسرحية لكاتب تشيكى شهير، قرأتها منذ سنوات بعيدة، استدعتها ذاكرتى فى معرض الرد على بعض ما أثاره حوار مع مجموعة من المثقفين والأكاديميين حول ما طرحته من أفكار فى المقالات الثلاثة الأخيرة هنا عن صناعة الوعى والتنوير ومؤسساتنا الثقافية الهزيلة والغائبة عن مشروع فكرى يؤسس للنهضة، ويعالج هذا الإفلاس الضارب فى حياتنا الفكرية والسياسية، ويلبى أشواق المرحلة للتحديث والعصرنة والتقدم.. طرحت فى هذا الحوار أفكارا حول حاجتنا الماسة لنخبة ثقافية سياسية جديدة، ربما من خلال تدوير النخبة القائمة والجاثمة على مقاعد الصفوف الأولى، والتى رغم وجودهم الثقيل تبدو المقاعد خاوية. والموضوع فى ذاته لم يكن جديداً، وهو متداول ومكرور مع كل انعطافة تاريخية واجهت حياتنا العامة، ومع كل تحولات الفكر والسياسة التى يواكبها عالم ينزع كل يوم لجديد قادم، بينما تعانى حياتنا العربية فى محيطها العام جمودا وتخلفا وركونا واستنامة.. ناقش هذا د.طه حسين فى «مستقبل الثقافة فى مصر» ود.زكى نجيب محمود فى معظم مؤلفاته، ود.إدوارد سعيد فى كتابه «صور المثقف» وعلى حرب فى «أوهام النخبة» بعد سقوط الاتحاد السوفيتى وتفكك الكتلة الشيوعية فى أوروبا الشرقية التى آذنت بموات الأيديولوجيا، وكذلك فعل عابد الجابرى ومحمد أركون ومالك بن نبى والطيب تيزينى وادونيس وجورج طرابيشى وغيرهم، حين عالجوا إشكاليات العقل العربى المراوغ والتراث ومشكلات النهضة، وأضاف عليها فرانسيس فوكوياما فى أطروحته «نهاية التاريخ والإنسان الجديد». وقد طرحنا هذه القضايا وناقشناها فى كثير من مقالاتنا عن غياب النخبة وحضور الجماهير ومشكلات الثقافة والإدراك ومشهد مأزوم وإنتلجنسيا حائرة، ومشروع فكرى للنهضة، والسياسة لا تتعلم من التاريخ، وعشرات المقالات الأخرى.
محصلة الأمر أن قضية النخبة لاتزال تشغل كل المهمومين بمستقبل هذا الوطن. وأذكر فى أعقاب ثورة يناير أن طرحت فكرة «صناعة نخبة جديدة» كانت غرابتها لا ينافسها إلا سذاجتها، بأن نأتى بالمصريين خريجى الجامعات الدولية المرموقة، من هارفارد وييل وأكسفورد وستانفورد وكاليفورنيا وغيرها لنصنع منهم نخبة جديدة، لكأن النخبة وصفة تصنع كما الوجبات الجاهزة أو من كتاب «أبلة نظيرة». لم تنجح الفكرة، وعادت نغمة تدوير النخبة، أى الإحلال والتجديد فى ترتيب الصفوف الفكرية والسياسية مع الإبقاء على الوجوه ذاتها بنفس الأفكار والرؤى والتوجهات على تهافتها وإفلاسها. وكان ردى «على الموتى القدامى أن يفسحوا مكاناً للموتى الجدد»، إذ فى هذه الحالة لا جديد، إن هى إلا خمر قديمة فى زجاجات جديدة. فالطلب الملح على تجديد النخبة هو ليس إعادة التموضع وترتيب الأدوار، بل هو طموح نحو معالجة القصور والخلل فى الفكر الذى لم يستطع مواكبة متغيرات العصر، ولم يستطع تلبية حاجة الجماهير لحلول ذات أفق جديد يلبى مطالبها وتطلعاتها فى التغيير والحداثة والتقدم والنهضة. على أن مصطلح النخبة يشكل عنصرية وطبقية تشى بانفصال بين الجماهير وأشواقها وبين القيادة الفكرية والسياسية وانتماءاتها وانحيازاتها وأفكارها. لذا أفضل مصطلح «الطليعة» الفكرية والسياسية، باعتبارها عملية فرز لقدرات طبيعية هى مؤهلة بالأساس للقيام بدورها فى القيادة والتفكير والتخطيط ومهارة الإبداع والتنفيذ. طليعة تأتى من بين صفوف الجماهير مسلحة بالعلم والخبرة والمعرفة، ويفسح لها المجال وتعطى الفرصة لتقدم الصفوف وقيادة حركة النهضة. وهذا لا يتم إلا بإزاحة الموجود تدريجياً والسماح للقادرين والمميزين والأكفاء، وهم كثيرون. وهذه عملية ينبغى أن تضطلع بها الجامعات والنقابات والأحزاب والإعلام والصحف ودور النشر، وكل المؤسسات والكيانات السياسية والتنفيذية العامة. والأمر هنا أشبه ما يكون بما صنعه محمد على فى تأسيسه لمشروع النهضة وإعادة صياغة النخبة، ولا أقول صناعتها، فالنخبة «الطليعة: تفرز بقدراتها واستعداداتها ولا يمكن تصنيعها على غرار فكرة استيراد خريجى الجامعات الدولية من المصريين، فربما كانوا قد أثبتوا تفوقهم فى دراساتهم وتخصصاتهم، لكنهم يفتقدون رؤية القيادة وملكاتها والانشغال بالشأن العام وتحدياتها ومسئولياتها.
وحتى تتم هندسة الجماهير لدور تقدمى جديد مواكب لدولة ديمقراطية طامحة حديثة، فإن ما نحتاجه هو إعادة هندسة «النخبة» الطليعة والتمكين لدورها، لا إعادة تدوير ما يلى مع الأيام والممارسات وأفقد الناس الثقة والأمل.
وللحديث بقية.