يوميات الأخبار

حتى يطير الدخان

 زكريا عبدالجواد
زكريا عبدالجواد

 زكريا عبدالجواد

لن أتنازل له عن شىء من حقوقى، والزواج بثانية يبيح لى الطلاق؟

كان المشفى أنيقًا جدا، يزين مدخله وطرقاته الطويلة طابور من أُصص الورد، تتمايل الزهور خارج حوافها ربما لتشى لبعضها بسر لا يعلمه إلا خالقها، اعتقدتُ أن مسئولا سيزور المكان، وجدت صديقى على سريره مرتبكًا كعادته حين وصلت النار لمنتصف سيجارته، فدخّن الباقى بحذر، وهو يقص عليَّ مواقف مع امرأة أحبها، ومع كل قطعة رماد.. كانت تموت حكاية.
قال لي: أنا أكره النهايات، ولكنى لا أخشى الموت، أجده بدءًا لعالم جديد غامض، لم نره بأعيننا، حتى الذين سكنوا الجنان اكتفوا بلذتها، دون ذكر لعالمنا. ظل يتأمل الفراغ الضيق ثم قال: ما الذى يجبر الدخان على تغيير مساراته عند كل مسافة لا تذكر؟  ولماذا يلوم بعضنا بعضا حين يُضعفنا الهوى؟ أتمنى سيجارة لاتنتهى، ولا يزحف الرماد على جسدها، ويكون قَدُّها الأبيض جسرا لمتعة أبدية.. تماما كنظرة رجل لامرأة يحبها. غاصت عيناه فى شرود، وعدَّل من وضع الوسادة؛ ودخل فى غيبوبة مؤقتة، وكلما أفاق يقبض على يدى ويقول: رأسى ستنفجر.
جاء الطبيب وغضب جدا، وصرخ فى وجهه: التدخين سيقتلك.  وأمر بإدخاله غرفة العناية المركزة، ونحن بداخلها أصر على أن يشعل سيجارة! بعد أن تواطأ معه صديق لنا وأعطاه ولاعة تكفى لإشعال الوهج للموت.
قبَّل يدى.. وتوسلنى أن أغلق الباب.. ثم أتبع أول شهقة كُحة طويلة، متتابعة، واغرورقت عيناه، وقبل أن يطلب مساعدتى نظر ليده وابتسم .. فتحررت السيجارة من سجن اصبعيه، واحترق العُمرُ بعد أن سكنت يداه إلى الأبد.
فى محطة المترو
الرجل الذى ابتعت منه تذكرة المترو كان غاضبًا، وامتعض جدًا حين سألته عن اتجاه حلوان! بينما كان عامل النظافة يكنس بقايا المشاوير، وكلما توقف.. شغل فراغه بإرشاد المسنين إلى السلالم المتحركة. تأملت الزحامَ بعتابٍ، فأخرجت الماكينة لسانها بتذكرتى، وبارك مرورى شابٌ يفتح أزرار قميصه، معلناً إعجابه بسرب جميلات، تأففن من سذاجته.
 الوجوم يترجل على هامات جيران الرصيف المقابل، هزمته ضحكة - خفيفة- تتآنس بصداها، لشاب وفتاة يتباريان فى لعبةٍ على الهاتف. طال وقوفى فظن الرصيفُ أنى صديقه الأبدى، وحين فُتحت الأبواب، داست جبينه أقدام تتوق لتبديل محطات العمر، وتركَته وحيدًا.. مبللًا بالانتظار.
جلست فى المقعد المواجه امرأة محجبة، جميلة، فارعة، يقبض إصبعها طفل وسيم، ربما لم يتجاوز السادسة، كانت تتكلم فى الهاتف بحدة: لن أتنازل له عن شيء من حقوقى، والزواج بثانية يبيح لى الطلاق، أنسى نفسه؟  كان يحلم بالارتباط بى ورفضته أسرتى لظروفه الصعبة، ولكنى آمنت به كرجل يتحمل عبء الإنفاق على أسرته الكبيرة، تمسكت به، وارتضيت بضيق حاله، حتى أكرمه الله بالمال الوفير.. فهل جزاء من ناصرته فى فقره أن يخذلنى فى غناه؟ 
كان الطفل منتبهًا للحديث حتى نهايته، وفجأة  أشار إلى شاب وقال لها: لماذاَ وقف هذا الرجل وأجلس السيدة؟ ابتسمت بوجع..ثم همست له: لأن الله خلق المرأة ضعيفة، والرجل أكثر تحملا.. ثم احتضنته وقالت: مثلك تماما.
قطع الولد لحظة حضنها الدافئ، وتساءل: ألم تقولى لى قبل ذلك إن المرأة قوية وعلينا ألا نغضب حين تركنا أبي؟ أغرورقت عينا السيدة، وهى تنهض استعدادا للنزول، وعكس زجاج الباب ارتباكها ولبسها لنظارة سوداء، وهى تتأكد من راكب يقف بجوارها عن اتجاه حلوان ربما استعدادا لتبديل محطات الألم.
 صديقى أبو توكة شعر
التقيته صدفة على أحد المقاهى بوسط القاهرة، سلَّم عليَّ بحفاوةٍ تليقُ بغياب تسع سنوات تقريبا، ولكنى تعرَّفتُ عليه بريبة، بعد أن تغيرت هيئته.. من شاب تقليدى إلى شخص له شعر طويل مربوط بتوكة، وعلى وجهه رسمة حواجب غريبة، ومعصمان مُحمّلان بحظاظات متنوعة، يظهر بين مسافات اصطفافها وشمان غريبان، وتحوَّط رقبته سلسلة يقبض طرفاها على صورة جمجمة، منقوش عليها عظمتان متقاطعتان تماما كالتى تُرسم على رسائل التحذير من خطر الموت.
 ورغم البرد جلس مكتفيًا بقفل اثنين من أزرار قميص مزركش، يُظهر مساحة واسعة من صدره الذى بدا ضيقا جدا لكل ما يخالف رأيه، ويرتدى بنطالا تؤكد ثقوبه المتعمدة أن هندام كثير من شبابنا تم تمزيقه بتقاليد غربية اتسع خرقها على الراقع، ولا تناسب حياءنا الشرقى أبدا.
كان آخر عهدى به أنه صوفى، يهوى سماع الابتهالات من مشاهير، ويقول إن سحر أصواتهم يفك عبوس وجه العالم،  ويُدفّق ينابيع نور من قلوب المحبين لآل البيت. وعند المشهد الحسينى.. كان صديقى يخفض صوته، ولا يمارس مزاحه المعهود وحين سألته ذات مرة قال: كيف لا أتأدب وأنا فى رحاب الإمام؟
جاء النادل، فقلَّبت فنجانًا من الشرود، تصاعد مع بخاره كثير من علامات الاستفهام، فجأة ..قطعها بتساؤل: أما زلت مقتنعًا بالحساب والميزان وبأننا سوف نحيا فى عالم آخر؟ ذُهلت من تغّيُر حاله، وقبل أن أُجيبه قال: أصبحت ملحدًا! صُدمت كثيرا، ومع ذلك لم أتعود أن أجادل مثله أبدا، وقال لى إن انضمامه لمجموعةٍ على أحد المواقع الإليكترونية غيَّر معتقده، لحظتها تمنيت أن تصل الرسالة لكل المؤسسات الدينية وكل الجهات المعنية بالدولة لدق ناقوس خطر.. ربما يستشرى بفعل عولمة.. جعلت سهولة التواصل سلاحًا لكثير من الشرور قبل أن تكون وسيلة فاعلة.. لنشر الخير والحب والسلام.
الرجل الفخ!
قالت: لم يكن حبيبًا، تزوجته.. لأتوارى به من نظرات الناس المؤلمة، بعد أن هزم الوقت زهوتى بجمالى كفتاةٍ كانت حلمًا لكثيرين من حولى، وحين وافقت على الارتباط به.. كنت فى قمة هذا الضعف، وأنا على أعتاب الثامنة والثلاثين. حينها.. بهُتَ جمالى، ولم تجاملنى المرآة فى مواراة خطوط الزمن على وجه بدأتُ أستجديه بكل أنواع المساحيق حتى يستحضر ولو صورة باهتة لأصله المبهر.
مللتُ الإحساس بالعنوسة، وكرهت دورى كمستشار أسرى لزميلات الجامعة اللاتى كن يجدن فى كلامى ضالتهن من رأى سديد ونصيحة خالصة، وتناسين مشاعرى كفتاة تحلم بعيش الحياة المستقرة لبعضهن. لكن كان يقتل كل الهواجس بداخلى شهادتى على  حالات زواج سيئة زرعت بداخلى يقينا بأن خيار الوحدة.. أفضل من الارتباط بشخص لا يُقدّر الإنسان بداخلى.
كنت أحتاج رجلًا ينفض وجدانى، يطرق باب الفؤاد من مرة واحدة، فيسطع ضوء قلبه في  نافذة روحى. لم يحدث هذا، وفشلت فى احتواء عيوبه، وبدد هو كل إحساس يليق حتى بمتعايشين يجمعهما سقف واحد، مضى قطار العمر، وكَبُر الأبناء، ولم يكن الزوج سوى خزانة مال، وأداة للإنجاب بطريق شرعى، وبعد سنوات طوال.. زاد يقينى بأن الرجل يبحث عن امرأة يسكنُ إليها، ولكن حتمًا كل أنثى تُشبهنى.. تبحث عن رجلٍ يسكن فيها.
فيها حاجات حلوة
كان صباحًا استثنائيًا..خرجتُ من باب البناية التى أسكن فيها بإمبابة وألقيتُ السلام على «عم شعبان» - صاحب ورشة حدادة  فى العمارة المقابلة - فرد عليّ بحفاوته المعهودة. كان الرجل مشغولًا بتهذيب قسوة الحديد، وبعثرة الابتسام على المارة، وصُنع نوافذَ من الأمل والانتصار على البطالة لشابين يعينانه على مواجهة بأس هذا المعدن العصى. لاحظته يتأكد بيديه الخشنتين من نعومة ملمس بابٍ أنيق يصلح ممرا للأحلام.
استوقفنى، وظل يحكى بفرح عن ابنته التى تخرجت فى الجامعة، وينتظرها مستقبل واعد. قطع حوارنا امرأة خمسينية، ترتدى زيًا بسيطًا قالت له: الطقطوقة خِلصت يا أسطى؟ ابتعد بها لمسافة بسيطة، وسمعته يحدثها بصوت خافت، وبعد لحظات من الشد والجذب علا صوته بالقَسَم على أنه لن يأخذ منها مليمًا واحدًا وأن المنضدة هدية منه لابنتها اليتيمة التى تستعد للزواج.
تركتُ الرجل وركبت ميكروباصا على الطريق الدائرى، بجوار تلميذتين تبدوان فى المرحلة الإعدادية، وحين مدَّت إحداهما يدها بأجرة الركوب.. رفض السائق، وألَّحت هى لكن إصراره على الرفض كان أشد، وبالفعل أعاد يد البنت وهى تقبض على كم من إحساس يفيض بالإنسانية قائلا: صاحب السيارة أوصانى ألا آخذ تعريفة من طلبة المدارس طوال اليوم.
لحظتها اكتظت المقاعد الفارغة بالدعوات لصاحب الميكروباص من باقى الركاب، بعدها نزلتُ.. وبينما أترجل لمسافة حتى أركب سيارة أخرى اكتملت لوحة التكافل الاجتماعى الرائعة بمشهد ثالث.. حيث لمحت عيناى يافطًة على واجهة مطعم صغير بمنطقة القومية مكتوب عليها: توجد وجبات مجانية طازجة للمحتاجين. كانت تلك المشاهد الثلاثة علامات لاتقبل الشك.. على أن هذا البلد سيظل أهله وجنده فى رباط إلى يوم القيامة،  وأنه بالفعل..  فيها حاجات كتير حلوة.     
كنت حارسًا للخبيز
كانت أمى توقظ الشمس، وفى بدء الضوء تسرقنى من نوم عَفى وتقول بصوت يهزم برد الشتاء: اصحى .. علشان تحرس العيش . أنفض غطائى، فتتبعثر على جوانبه الأحلام، وأراها مرتدية جلابية مخصصة للخبيز .. أرقبها وهى تُغربل الأفكار بتؤدة، وتصنع كومة من الطحين.
كنت أداعب نُعومة تل الدقيق الناعم بأصابعى، وأرسم على جنباته نيلا، ونخلة، ووجه محبوبة . تصب أمى الماء على أحلامى، وتُصارع قِطَع العجين بذراعيها العفيتين.. ومع بخار كوب شاى، تتصاعد الآمال، وترتشف الانتصار على أصعب مراحل الخبيز، وتنظر له، مستسلما، مستعدا للتخمر فى ماجورها الفخار.
ومن قِطع شمس باهتة، تتزين أوجه الأرغفة بالضوء، وتنتفخ على مهل كنت أطهو أوقات الانتظار بالاستدفاء على وهج نار الفرن البلدى، وأراقب على فوهتها الجانبية قِدرًا من الفخار الأسمر، تنتفض فيه حبّات الفول بغليان على واقعها المر، ولكنها لا تعلم أن الانتفاضة فى قِدْرٍ لا تصنع ثورة. كانت مهمتى حراسة الأرغفة من عصافير دءوبة على رزقها السهل، أرهقها الجوع ولا تستطيع انتظار فتافيت ناضجة.
الغراب يُحلق فى سماء شمس اكتمل دورانها، يرقب عِشّة جارتنا العجوز، وأسمع صوتها الواهن: ابعد.. ياوش الفقر. لا يأبه الغراب بتوسلاتها ويرتكز بمخالب الشر، متأرجحا على سعفة نخلة ترسم يدًا تلوح بالصباح .
كانت أمى تهدينى رغيفا صغيرا بثلاثة قرون، وتصنع لأختى عروسة، مبتورة الأصابع، تواجه نارا حامية، حتى تنال رضاها، تلعب بها المسكينة لأطول وقت ممكن، وحين تخشى عليها من التيبس تُبللها بابتسامة وداع، وتترحم على كل قطعة غرقت فى كوب اللبن، ولا يُنسيها الحزن على الفراق سوى وعد أمى بأخرى، ورغيف صغير لى فى خَبزة قادمة.