إنها مصر

لماذا أكتب هذا الكلام.. الآن؟

كرم جبر
كرم جبر

لا أنسى ما حييت منظر المصريين فى مطار بغداد، أثناء زيارتى للعراق قبل غزو الكويت 1990، وهم يجلسون فى طوابير طويلة على الأرض للعودة إلى مصر، ولا يسمح لهم بدخول صالة السفر إلا قبل إقلاع الطائرة، مع إنهم يحملون تذاكر درجة أولى.


فى الدائرة الجمركية يتم تفتيشهم ذاتياً بخلع الملابس أمام المسافرين، ومن يجدون بحوزته مائة أو مائتى دولار يخيرونه بين التصالح وأن يشترى بها من السوق الحرة، أو يتم اعتقاله بجريمة تهريب عملة وعقوبتها الإعدام، وخفف «صدام» العقوبة بالنسبة للمصريين إلى قطع اليد فقط، اعترافاً بجميلهم فى الوقوف بجانبه ضد إيران!.


مائة دولار - يا مؤمن - ادخرها المصرى الغلبان فى بلاد الرافدين بعد الشقاء والذل والبهدلة، لزوم المواصلات من مطار القاهرة حتى بلدته فى الريف أو الصعيد، يجبره رجال صدام أن يشترى بها شيبسى وبسكويت ومناديل ورقية، وهى السلع الموجودة فى السوق الحرة.


والله العظيم كان منظرا يقطع القلب، والمصرى الخارج من التفتيش وهو يحمل «شوال خيش» فيه هذه الأشياء، مثل الكتكوت الدايخ الذى صبوا فوقه ماء باردا، فلم يكن مطاراً بل أسوأ من مواقف نقل الماشية، لا حجوزات وإنما بالدور لمن يجلس فى الطابور الذى يمتد مئات الأمتار، تحت رحمة رجال الأمن العراقيين، الغلاظ القلب واللسان والأحذية.


لا أنسى ذلك ما حييت، ومن ساعتها وأنا أسأل نفسى أسئلة تتكرر، كلما وقع لمصرى حادث فى دولة شقيقة: لماذا يهان المصريون فى بلاد العرب بينما يجدون الاحترام فى دول الغرب؟.


لماذا لم يظهر فى بلاد العرب مصريون نوابغ، مثل مجدى يعقوب وزويل وفاروق الباز، وغيرهم آلاف الأسماء الذين يتبوأون أعلى المناصب فى تلك الدول الأكثر تقدماً؟.


لماذا يستأسد الكفيل الظالم على المصريين، بينما يعيش الأجانب ملوكاً فى تلك الدول ويدخلونها بدون تأشيرة؟، لماذا كانت بعض الدول العربية تستخدم المصريين كرهائن عندما تحدث خلافات سياسية، وتهددهم بالطرد والترحيل؟


من ساعتها وأنا أسأل نفسى: هل يأتى يوم ويصبح فيه المصرى مثل الأمريكى، الذى تتحرك بلاده بكل عناصر قوتها لتحميه ظالماً أو مظلوماً؟


من ساعتها وأنا مؤمن بأن كرامة المصريين فى الخارج تبدأ من مصر، وإعلاء كرامتهم لن تتحقق إلا إذا استرد هذا الوطن عافيته، ويبنى نفسه ويوفر فرص الحياة الكريمة لمواطنيه، ليعود المصرى مرغوباً فيه فى بلده وفى بلاد الآخرين.


الدولة التى تسابق الزمن الآن لتشييد مصر الحديثة «المكتفية»، لا توفر لأبنائها فرص عمل فقط، وإنما تحفظ كرامتهم وكبرياءهم وتمنع عنهم الأذى.