حكايات| الشكل الحقيقي لـ صلاح الدين (1).. قاهرة الصليبيين بعيون السينما

هكذا بدا شكل صلاح الدين في عدد من الأفلام
هكذا بدا شكل صلاح الدين في عدد من الأفلام

كتب: عبدالمجيد عبدالعزيز

شكلت السينما دوما نافذة أساسية لرسم المخيلة الجمعية للشعوب، حيث كان للأفلام التاريخية دور رئيسي في إحياء شخصيات من قلب التاريخ كادت أن تنسى، وإبقاء شخصيات أخرى حية في الذاكرة، ورسم تفاصيلها وصناعة أسطورتها.


وكانت شخصية القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي، واحدة من الشخصيات التي اهتمت بها السينما منذ بداياتها الأولى في مطلع القرن الماضي، حيث ظهر في العديد من الأفلام الغربية قبل أن يصل إلى السينما العربية، بحكم ارتباط تاريخه مع الحروب الصليبية وبالأخص مع الملك ريتشارد قلب الأسد، حتى باتت واحدة من أكثر الشخصيات التاريخية المسلمة التي تم تجسيدها في الأعمال السينمائية العالمية.


وعبر هذه الأعمال، ظهر دوما صلاح الدين في صورة البطل المحارب، موفور الصحة، طويل القامة، ضخم البنيان، فارس في منتصف العمر قادر على خوض غمار الحرب ومطاردة أعدائه من فوق فرسه، وبالغت تلك الأفلام في رسم هيئته الشكلية والجسدية في أعلى مراحل الكمال، حتى الأعمال الغربية كانت حريصة دوما على إظهاره في تلك الصورة!


ومن هنا يأتي تساؤلنا: هل كان صلاح الدين الأيوبي فعلا بهذه الصفات الجسدية والشكلية التي ظهر بها في السينما العربية والعالمية؟ هل كان في فترة الحروب الصليبية التي شهدت مجده العسكري موفور الصحة بهذا الشكل وقادر على امتطاء فرسه في قلب المعارك؟ هل كان حقا بهذه الضخامة التي ظهر بها في الأفلام الأمريكية على الأخص؟


الإجابة على هذا السؤال، استدعت منا رحلة طويلة بين العديد من المصادر لرسم صورة أقرب للحقيقة لهذا البطل الاستثنائي، ومقارنتها بالصورة التي رسمت في أذهاننا بفضل السينما، حيث كانت النتيجة مفاجئة بكل المقاييس!


في السطور التالية سنحاول اصطحابكم في رحلة سينمائية تاريخية شيقة، نتعرف من خلالها على صلاح الدين الأيوبي، صلاح الدين الحقيقي، كما عاش وكما عانى وكما ضحى في سبيل انتصاراته التاريخية التي لم تتكرر.

 

صلاح الدين في السينما 
قد يندهش الكثيرون إذا ما علموا أن شخصية صلاح الدين الأيوبي، هي واحدة من أوائل الشخصيات التاريخية التي تم تجسيدها في السينما العالمية منذ بدايات ظهورها، وفي غالب الظن هو أول شخصية تاريخية إسلامية تظهر في فيلم غربي.


يقول الباحث السوري غسان مرتضى، إن اهتمام السينما الأمريكية بشخصية صلاح الدين يرجع إلى حقبة السينما الصامتة، مشيرا إلى أن شخصية القائد المسلم ظهرت في عدد من الأفلام الأمريكية التي تتناول موضوع الحروب الصليبية أو تتحدث عن الملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد، إلا أنها لم تكن الشخصية الرئيسية في أي عمل سينمائي أمريكي، ولم تكن مستهدفة بحد ذاتها.


وبعد محاولات بحث مضنية، لم نستطع الوصول إلى أي فيلم أمريكي صامت تضمن ظهور شخصية صلاح الدين، إلا أننا عثرنا على فيلم ألماني صامت يرجع تاريخه إلى عام 1922، بعنوان "ناثان الحكيم"، من إخراج Manfred Noa، مأخوذ عن مسرحية استثنائية كتبها المؤلف الألماني Gotthold Ephraim Lessing عام 1779.


والفيلم يصور قصة شهيرة في الأدب الألماني لحكيم يهودي يدعى ناثان، تتناول العلاقة بين الأديان السماوية الثلاث، ومن أبرز أحداث الفيلم، لقاء السلطان صلاح الدين مع ناثان، حيث يسأل السلطان الحكيم عن أي الأديان السماوية هو الأصح؟ فيقدم الحكيم إجابة ذكية تنال إعجاب السلطان.
وقام بدور صلاح الدين في هذا الفيلم الممثل النمساوي Fritz Greiner، والذي كان يبلغ من العمر حينها 43 عاما، وجسد فيه شخصية صلاح الدين بوصفه فارسا قويا مفتول العضلات بكامل صحته، يعدو بحصانه بين الجنود بخفة ورشاقة.


أما أول فيلم عثرنا عليه يجسد شخصية صلاح الدين في السينما الأمريكية، فكان فيلم The Crusades، إنتاج عام 1935، وهو من إخراج الأمريكي Cecil B. de Mille، وهو أول فيلم تظهر فيه شخصية صلاح الدين بوضوح.


ويشير غسان مرتضى في بحث له بعنوان "صورة صلاح الدين الأيوبي بين السينما العربية والأمريكية"، أن الدقائق التي ظهرت فيها شخصية صلاح الدين أمام الكاميرا في فيلم The Crusades أطول منها في أي فيلم أمريكي آخر، حتى أن المشاهد قد يظن أحيانا أن شخصية صلاح الدين هي بطل الفيلم الحقيقي.

وجسد شخصية صلاح الدين في الفيلم الممثل الأمريكي Ian Keith، الذي كان يبلغ من العمر حينها 36 عاما فقط، وقد أدى شخصية القائد العربي في صورة شديدة الإيجابية، وأظهره في صورة الفارس النبيل العاشق المخلص الذي لا يغدر بأعدائه، والمؤمن بتعاليم دينه دون إفراط أو تفريط، والنقطة التي تهمنا في هذا الموضوع، هو أن صلاح الدين ظهر أيضا بكامل قوته وأناقته، بل كان Ian Keith أطول وأضخم من شخصية ريتشارد قلب الأسد، وكان في كامل صحته وشبابه.

 

أول فيلم عربي 
في عام 1941، ظهر أول فيلم عربي يتناول شخصية صلاح الدين، وهو فيلم "صلاح الدين الأيوبي" بطولة بدر لاما وإخراج إبراهيم لاما، ويقول الدكتور قاسم عبده قاسم في دراسة له بعنوان "هل هناك أفلام تاريخية عربية؟"، أن التاريخ الذي تناوله هذا الفيلم لم يكن له وجود سوى في خيال المخرج الذي كتب السيناريو بنفسه، حيث أن القصة التي تناولها الفيلم لا وجود لها في صفحات التاريخ جملة وتفصيلا.


وهذا الفيلم للأسف يعتبر في عداد الأفلام المفقودة، حيث لم نعثر له على أي نسخة، وتختلف الآراء حول مصيره، بين من يقول إنه ضاع في حريق استوديوهات لاما بحدائق القبة الذي التهم أغلب أعمال الأخوين لاما، وبين من يقول إن إحدى القنوات العربية لازالت تمتلك نسخة من الفيلم ولكنها لم تعرضها سوى مرة واحدة.


ضياع الفيلم كان سببا في عدم معرفتنا بدقة بشخص من قام بدور صلاح الدين في الفيلم، والذي يرجح أنه كان أحد شخصين، إما محمود المليجي أو أنور وجدي، حيث لم تكن شخصية صلاح الدين محور الأحداث حتى يجسدها بطل الفيلم بدر لاما، بل كانت مجرد شخصية ثانوية، كما لم نعرف الشكل الذي ظهر عليه صلاح الدين في الفيلم ولا مواصفاته وملامحه كما صورها المخرج إبراهيم لاما.

 

الإنتاجات الملحمية 
في عام 1954، تعود السينما الأمريكية بفيلم جديد عن صلاح الدين الأيوبي، وهو فيلم "King Richard and the Crusaders"، وهو من إخراج David Butler، بالاعتماد على رواية للمؤلف Sir Walter Skott.


وقد أدى دور صلاح الدين في الفيلم، الممثل الإنجليزي الشهير Rex Harrison والذي كان يبلغ من العمر حينها 46 عاما، ويقول غسان مرتضى أن الفيلم صور صلاح الدين وكأنه أقرب إلى الإنسان الكامل، ذكيا فطنا ونبيلا شجاعا، وفارسا جسورا، وحكيما متأملا، وفلكيا يعرف واقع النجوم ويفهم مدى تأثيراتها العلاجية، ويصل إلى أعلى مراحل التمجيد عندما يقوم ريتشارد باختيار صلاح الدين حكما لفض النزاع بين ملوك الصليبيين المتخاصمين!


حرص الفيلم على إظهار صلاح الدين في صورة شديدة الإيجابية، كان يستلزم بالطبع أن يظهر كذلك بصفات شكلية أسطورية، سواء من حيث القوة أو البنيان أو الصحة، وبالتأكيد الأناقة.


السينما العربية والمصرية احتاجت قرابة 20 عاما، بعد إنتاج أول أفلامها عن صلاح الدين الأيوبي، لتقوم بإنتاج فيلم ثاني بالألوان عن البطل المسلم وعن فتحه لبيت المقدس، وهو الفيلم الأشهر في تاريخ السينما المصرية "الناصر صلاح الدين" للمخرج يوسف شاهين إنتاج عام 1963.


جسد شخصية صلاح الدين في الفيلم الفنان المصري أحمد مظهر، الذي كان يبلغ من العمر 46 عاما حينها، ويعتبر هذا الفيلم أول عمل سينمائي يركز بشكل أساسي على شخصية صلاح الدين، كما أظهره في شكل طبيعي وليس أسطوري، يمرض ويعاني ويحزن لفقد الأحبة ويبكي من فرط الشعور بالضعف، إلا أنه أيضا تمسك بالشكل البطولي للرجل، حيث أظهره فارسا قادرا على امتطاء جواده وخوض غمار الحرب والقتال.


وفي عام 2005، كان العالم العربي على موعد مع واحد من أهم الأفلام الأمريكية التي تناولت قضايا المسلمين والعرب وأظهرتهم بشكل إيجابي منصف، وهو فيلم "Kingdom of Heaven" للمخرج Ridley Scott.


في هذا الفيلم جسد شخصية صلاح الدين الممثل السوري غسان مسعود، الذي أدى دوره ببراعة كبيرة، مدعوما بموهبة كبيرة وخبرات مخرج مخضرم، وكان يبلغ مسعود حينها 47 عاما، ولم يبالغ الفيلم في تجسيد صلاح الدين من الناحية الشكلية كبطل مفتول العضلات في ريعان الشباب كما فعلت أغلب الأفلام التي سبقته، بل قدمه في صورة رجل تجاوز الخمسين من العمر تظهر عليه آثار الإرهاق من كثرة حروبه ومعاركه، مع الاحتفاظ بالصورة الإيجابية العامة عن صلاح الدين وعن نبله وإيمانه بمبادئه.


أما آخر الأفلام السينمائية العالمية التي تناولت شخصية صلاح الدين، فكانت فيلم سويدي مشترك مع كل من الدنمارك والنرويج وفنلندا وألمانيا، أنتج عام 2007، بعنوان "Arn – The Knight Templar"، وهو فيلم ملحمي مبني على قصة خيالية شهيرة تدور حول أحد فرسان الهيكل، كما صدر منه جزء ثان في عام 2008.


وجسد شخصية صلاح الدين في الفيلم، الممثل البريطاني الهندي Milind Soman، وكان يبلغ من العمر حينها 42، حيث تعد شخصية صلاح الدين ثانوية بالأحداث، ولا تظهر إلا من خلال علاقتها ببطل الفيلم آرن الذي أنقذ حياة صلاح الدين طبقا للقصة الخيالية، المهم أن صلاح الدين ظهر طويل القامة بشكل ملحوظ وفي ريعان الشباب، ولم يظهر أنه عانى من أمراض أو أي مشاكل جسدية.

 

نقلا عن أخبار الأدب