حكايات| سبَّه من فرط الإعجاب.. صلاح منصور «مجذوب» الشيخ مصطفى إسماعيل

صلاح منصور والشيخ مصطفى إسماعيل
صلاح منصور والشيخ مصطفى إسماعيل

يجلس الشيخ مصطفى إسماعيل على الأريكة وأمامه الميكرفون، يلتف حوله المئات استعدادًا لحالة صفاء ستعم الأجواء الروحانية بمجرد بدء تلاوته الإعجازية، وما أن يبدأ بخامة صوته النادرة، ومع كل تجويدة ترتفع أصوات "السميعة" من حوله بعبارات المدح أحيانًا وبردود أفعال غاية في الغرابة في أحيان كثيرة، تشجيعًا وطلبًا للمزيد.


"قول كمان يا عسل"، "يا هوه جت إزاي دي؟"، "أنت عملت كده إزاي؟ أنت جننتني".. قد يستغرب البعض أن إحدى تلك الجمل التي تستمع إليها في أحد التسجيلات النادرة للشيخ مصطفى، أو حتى عبارات غيرها أكثر حدة تتضمن ألفاظ خارجة للشيخ على سبيل المدح والإعجاب، كانت تصدر من الفنان القدير صلاح منصور.


"منصور"، الذي تحل ذكرى وفاته اليوم 19 يناير، كان أحد هؤلاء "المجاذيب" بصوت "قارئ الملوك"، يتعقبه في جميع رحلاته في بر مصر ويسافر خلفه من القاهرة إلى مختلف المحافظات، فقط للاستمتاع بصوته سواء في حفلات ومجالس ذكر وتلاوة في المساجد، أو حتى في المآتم.


الفنان الذي كان "متيمًا" بالشيخ مصطفى، ومن رواد الصفوف الأمامية وتحديدًا في الجهة المقابلة للشيخ، لم يكن يجوب المحافظات خلف شيخه المفضل وحده، بل كان يرافقه في رحلاته تلك الكاتب الساخر الكبير محمود السعدني، والفنان شكري سرحان وغيرهما، وبالطبع كان يغلف بعض من تلك الجولات العديد من المواقف الطريفة والمحرجة أيضًا، روى الكثير من تفاصيلها من عايشوها.


"الأصوات كما الوجوه لكل منها سحنة خاصة.. هناك أصوات تنفر منها.. وأصوات تدخل السرور على قلبك.. وأصوات ترتاح إليها وأصوات تجعلك بالرغم منك تعشقها وتحبها.. والأصوات كالمعادن بعضها كالصفيح وبعضها كالفضة وبعضها له بريق الذهب، وبعضها له رنينه، ويندر جدا أن يكون الصوت من ذهب، ومن هذه الأصوات الذهبية صوت الشيخ مصطفى إسماعيل.

"علقة سخنة"

ما سبق كان جزءًا من وصف "السعدني" للشيخ مصطفى، والذي يحكي في كتابه "الطريق إلى زمش"، ذكرياته الطريفة معه برفقة "منصور"، أحدها موقف لا ينساه خلال حفل ديني أقامته إحدى الطرق الصوفية في مسجد الخادم ببولاق، إذ كان الثنائي على موعد مع "علقة سخنة" من رواد المسجد.


يقول "الولد الشقي": "ذهبنا مبكرين لكي نضمن مكانًا بجوار الدكة التي سيجلس عليها الشيخ مصطفى، ولكن بمرور الوقت، صار المسجد يزدحم حتى ضاق بالناس عن آخره، ومضت ساعتان ولم يحضر الشيخ حتى خيل لنا أنه اعتذر عن الحفل السنوي الكبير".


ووسط هذا الازدحام –لا يزال الكلام على لسان السعدني- هب رجل واقفًا وسط المسجد وصرخ صرخة مدوية "الله حي.. الله حي"، وإذا بجميع من في المسجد يهب بالوقوف مرددين وراءه "الله حي" وهم يتمايلون ذات اليمين وذات اليسار في سعادة تامة ونشوة بالغة، ولم يكن يفترش الأرض إلا "السعدني" و"منصور" وآخرين معهم لزموا أمكانهم ولم يحركوا ساكنًا.


يضيف "السعدني": "أدركنا أننا أكلنا مقلبًا فضحكنا، فاعتبر البعض ضحكنا مؤامرة ضد الليلة المباركة، فانهالوا علينا بالضرب، وحاولنا الفرار، فاصطدمنا بالحلقات المضروبة بعضها فوق بعض، ونجحنا في الخروج من المسجد واختراق الحصار".


"أكلنا علقة ولا حرامي في مولد، وأصبحنا حفاة بلا أحذية بعدما تركناها على باب المسجد، ولم نجرؤ على التوقف لارتدائها من شدة الضرب وقسوته".. هكذا يصف "السعدني" حالهم قبل أن يقفا على ناصية الشارع الذي يقع فيه المسجد، ويتبدل حالهم ويصبحا محل حفاوة وتكريم من الجميع بمجرد وصول الشيخ مصطفى إسماعيل واصطحابهما معه إلى المسجد.


إعجاب بالسب

ويبدو أن أحد تلك الرحلات المكوكية لـ"منصور"، حضرها أديب نوبل العالمي نجيب محفوظ، والذي حكى في إحدى جلساته عن موقف غاية في الغرابة، رصده الكاتب إبراهيم عبد العزيز، في الجزء الأول من كتابه "ليالي نجيب محفوظ في شبرد".


وخلال إجابته على سؤال عن قارئه ومنشده المفضل، أجاب "محفوظ"، أن الأول هو الشيخ محمد رفعت، أما منشده المفضل فهو الشيخ علي محمود الذي كان يستمع إليه في مسجد الحسين وهو ينشد قصائده في مولد النبي، وفجأة اعتلت وجهه ابتسامة واسعة، فسأله الكاتب والمؤلف د. فتحي هاشم عن سر الابتسامة، فقال: "تذكرت الممثل والمخرج صلاح منصور".


وروى "أديب نوبل"، واقعة طريفة ولكنها لا تخلو من الغرابة أيضًا، فيقول: "كان صلاح منصور يحب الشيخ مصطفى إسماعيل ومعجبًا بصوته، وكان عندما ينسجم معه يقوم بأعمال غير لائقة من شدة إعجابه بنغمة حلوة في تلاوة الشيخ، حتى أنه ذات مرة قال: (الله يلعن .... أبوك)، وقام هاربًا والناس تتناول قفاه بأيديهم".

"جاي تعزي ولا تهرج"

لم تقف طرائف "منصور" مع "قارئ الملوك" عند هذا الحد، فيبقى موقف آخر سرد تفاصيله الفنان الراحل شكري سرحان، في لقاء تلفزيوني ببرنامج "شموع" على التلفزيون المصري، فهو كان أحد أركان "شلة السميعة" للشيخ مصطفى، فضل صديقه وزميل دراسته صلاح منصور، الذي عرفه على الشيخ وكان يصطحبه معه لحضور حفلاته والاستمتاع بصوته.


كان "منصور" من أولئك الذين يهيمون عشقًا في صوت الشيخ ويردد الآهات وكلمات الإعجاب كلما انتقل "إسماعيل" كعادته من مقام أو نغمة إلى أخرى خلال التلاوة، بحسب ما يقول "سرحان": "كنا بنروح نسمعه يوميًا في ليالي رمضان في قصر عابدين، وكان بيحضر مطربين وفنانين، وكان صلاح يحرص على الاتصال يوميًا بمنزل الشيخ مصطفى ليعرف مكان العزاء أو الحفل الذي سيقرأ فيه، ونروح وراه كل ما نكون فاضيين".


وتحدث "سرحان" عن تفاصيل واقعة طريفة، ذات مرة في عزاء كبير بإحدى المحافظات، حيث كانا يحرصان دومًا على الجلوس في المقاعد المواجهة للشيخ مصطفى إسماعيل، ومع تجلي الأخير في التلاوة، يبدأ صوت "صلاح" في الارتفاع بعبارات المدح "الله عليك يا سيدي.. يا سلام.. آه والنبي حلوة دي كمان شوية".


وعلى طريقة فيلم "الكيف"، أنت جاي تعزي ولا تهرج، فوجئ الثنائي الفني أثناء الاندماج مع الشيخ، برجل "طويل عريض" يطرد "صلاح" من العزاء، فيقول "سرحان": "فوجئنا برجل بيخبط على كتفه وبيقول: إيه يافندي أنت إيه اللي بتعمله ده، ده عزاء اتنين أخوات ماتوا في حادث عربية، وأنت قاعد تقول يا سلام ومصهلل ومجلل، قوم اطلع برة، ولكن أنقذه من الموقف الشيخ مصطفى إسماعيل، الذي دافع عنه أمام إصرار صاحب العزاء على رحيله، حتى أن الشيخ هدده بترك العزاء إذا رحل صلاح منصور".