تعانقوا على أرض السلام.. تفاصيل ترميم المعبد اليهودي والكنيسة المعلقة ومسجد الفتح

الديانات السماوية تتعانق على أرض السلام
الديانات السماوية تتعانق على أرض السلام

منذ قديم الزمان احتضنت مصر الأديان السماوية الثلاث «اليهودية والمسيحية والإسلام»، وانتشرت على أراضيها المعابد والكنائس والمساجد التراثية، وفي الفترة الأخيرة حرصت الدولة على إعادة تأهيل المعالم الدينية التراثية بعمليات ترميم وصيانة شاملة أبرزها عملية ترميم معبد «الياهو هانبي» اليهودي بمحافظة الإسكندرية، والكنيسة المعلقة بمنطقة مصر القديمة، ومسجد الفتح بعابدين، لتضرب مصر مثالا رائعا للتسامح الديني والعيش المشترك والسلام الاجتماعي.

هنا على أرض هذه البلاد صنع المصريون ملحمة من التآخي، قوامها قبول الآخر بمعتقده، وعدم التضييق عليه فى ممارسة شعائره، ورغم أن التاريخ الأسود للفكر الظلامي والاستعماري غَيَّر بعض ملامح جغرافيا دور العبادة فى مصر.. لكن اليقين الذي يسكن ضمائر أبناء هذا الوطن بأن الدين لله والوطن للجميع أعاد بناءها، بفكر ثاقب، واستراتيجية إنسانية سطرت رقيا أخلاقيا ممتدا عبر قرون.

وكانت أرض الكنانة محظوظة بأن حباها الله لتكون موطئا للديانات السماوية الثلاث.. فعليها  كانت رحلة العائلة المقدسة، ومن فوق جبل طور سيناء كلم الله نبيه موسى، وتشهد المآذن على زمن دخول الإسلام إليها وفتحها بقيادة الصحابي الجليل عمرو بن العاص.  

معبد «إلياهو هانبي»

يعد معبد «إلياهو هانبي» من أقدم وأشهر المعابد اليهودية بالإسكندرية، ويقع بشارع النبى دانيال فى وسط المدينة مجاوراً للعديد من المعالم التاريخية المهمة، ويُنسب المعبد إلى النبى إلياهو هانبى أحد أنبياء بنى إسرائيل الذى عاش فى القرن الثامن قبل الميلاد، وقد شيدته الجالية اليهودية سنة 1354 من الميلاد وتعرض المعبد للتدمير على يد الحملة الفرنسية لاعتراض مبانيه لمسار نيران المدفعية، وأعيد بناؤه مرة أخرى عام 1850م فى عصر عباس حلمى الأول، كما أعيد بناء المعبد أكثر من مرة آخرها عقب الحرب العالمية الأولى حيث تم زيادة مساحته وتكسية الأعمدة بمادة الأسكاجولا (عجائن الرخام).

وتبلغ مساحة المعبد الحالية 4200م، وهو عبارة عن طابقين، طابق للرجال والثاني للسيدات، ويحتوى على مكتبة مركزية قيمة يعود تاريخها إلى القرن الخامس عشر من الميلاد، كما يضم صفوفًا من المقاعد الخشبية تسع 700 شخص، وصناديق من الرخام مخصصة لجمع التبرعات وعدد من المكاتب الخدمية الخاصة بالطائفة اليهودية.

وقد اتخذت الدولة ممثلة في وزارتي السياحة والآثار قرارا بترميم المعبد الأثري عقب سقوط سقف السلم الخاص بمصلى السيدات، وبدأت أعمال التوثيق والترميم في أغسطس عام 2017م، وأسندت الدراسات الخاصة بالترميم لشركة المقاولون العرب التى شملت توثيق المعبد وعمل التحاليل والفحوصات وبحث مسببات ومصادر التلف وتوصيف مظاهر التدهور للعناصر الإنشائية والمعمارية والزخرفية، كما تم التعاون مع محافظة الإسكندرية لرصد مسارات شبكات المرافق المرتبطة بالمعبد.

ومن الأعمال التي تطلبت دقة في التنفيذ إعادة السلم المنهار بعد أن أدت عوامل التلف إلى انهياره، حيث يبلغ عدد درجات السلم 42 درجة، وتمثلت الصعوبة فى هذه المرحلة فى الوصول إلى نوعية الرخام المستخدم وتقنية التنفيذ التى تمت بدقة بالغة.

ثم جاءت مراحل الترميم الدقيق للعناصر المنقولة والثابتة مثل الزجاج المعشق بالرصاص والمشغولات النحاسية والخشبية والبلاطات من الرخام والمزايكو، والشواهد الأثرية الباقية من المعبد القديم. 

وتم إعداد الدراسات التفصيلية لعرض الشواهد الأثرية لآثار المعبد القديم، تحت إشراف طاقم الإشراف الأثري والهندسي للمجلس الأعلى للآثار حتى يتمكن الزائر من معرفة مراحل التطور الأثري للمعبد منذ وقت إنشائه وحتى وقتنا الحالي، وقد تطلب ذلك مهارة في التنفيذ.

وعقب الترميم تم تزويد المبنى بأحدث أنظمة إنذار الحريق وأنسب وسائل الإضاءة التي تُلائم طبيعة المبنى الدينية والأثرية.

وتعد عملية ترميم المعبد بمثابة ملحمة فنية وهندسية رائعة، عادت بها الحياة من جديد إلى ذلك الصرح التاريخي العريق، عزفتها عقول مصرية مخلصة في تناغم تام.

وبترميم هذا الأثر المصري حققت مصر إنجازا جديدا في مجال حفظ التراث الإنساني، وصيانة الآثار التاريخية لتثبت للعالم كله ريادتها ومكانتها بين دول العالم الأكثر تحضرا على الإطلاق.

و«إلياهو هنابي» هو أحد المعابد اليهودية التي يعتقد اليهود في أنها أقدم معبد لهم في الإسكندرية التي كان لهم فيها ما يصل إلى ١٣ معبداً لم يتبق منها إلا ثلاثة هذا المعبد إحداها، بحسب الباحث في التراث السكندري، الدكتور إسلام عاصم.

يضيف «عاصم»: طبقا للرواية اليهودية فالمعبد هدمه نابليون في نهاية القرن الـ١٨ ثم تم استرداد أرضه في عصر محمد علي باشا، وتم إهداء قطعة من الأرض إلى اليهود في عصر سعيد باشا.

ويقع المعبد اليهودي إلى جوار الكاتدرائية المرقسية ومسجد النبي دانيال، وتجمعوا في شارع النبي دانيال ليكونوا شواهد على الحالة التي كانت تعيشها مصر على مدار تاريخها، وتحرص مصرعلى الاعتناء بهذه الشواهد في رسالة منها للعالم على أن أرضها أرض السلام.

وفي عام 2016 تعرض المعبد لانهيار جزئي لسقف «شخشيخة» السلم لمصلى السيدات بالطابق الثالث للمعبد خلال إحدى نوات الشتاء ما دفع الآثار إلى ترميمه حفاظا على المبنى الأثري، بتكلفة إجمالية بلغت 67 مليون جنيه،  وذلك بحسب ما صرحت به وزارة الآثار.

وشمل الترميم الانتهاء من أعمال التوثيق الفوتوغرافي والمعماري للمعبد، وأخذ عينات من الأخشاب والدهانات والرخام الموجودة به لمعامل التحليل، وعمل مكاشف للأساسات والأعمدة والتيجان الرخامية والتجاليد الخشبية، وإزالة المسطحات الخضراء المتهالكة بالموقع العام طبقا لأعمال التطوير المخططة.

مسجد الفتح بعابدين

يحكي المهندس ضياء السيد، مدير المكتب الفني للمشروعات بإدارة صيانة القصور بشركة «المقاولون العرب» سيرة مسجد الفتح التاريخية فيقول: هو أحد الجوامع التي اُنشِئت على الطراز العثماني في مصر عام (1041هـ /1631م)، وقد شُيد المسجد مكان زاوية صغيرة تعرف بزاوية الفتح، كانت تقع بجوار قصر اللواء السلطاني الأمير عابدين بك أحد الأمراء العثمانيين، وقد أمر بإعادة بنائها وتحويلها إلى مسجد سمي آنذاك بمسجد «عابدين بك».

وفي عصر الخديوي إسماعيل تم هدم القصر القديم للأمير عابدين وبنى قصر عابدين الحالي، وقد أصبح المسجد بذلك يقع داخل سور القصر الملكي الذي تُدار منه شئون الدولة المصرية. تم تجديد عمارة القصر عام 1918 في عهد الملك فؤاد الذي حكم مصر في الفترة من 1917م حتى 1936م، فعهدت وزارة الأوقاف إلى لجنة حفظ الآثار العربية بذلك، وقد بلغت نفقات إنشاء هذا المسجد 1918م (25000 ) جنيه مصري صرفت من ريع الأوقاف التي وافق عليما إسماعيل باشا.  

وبناء على رغبة الملك تم الاحتفاظ بالمدخل القديم والمئذنة، وروعي أن يكون على طراز المساجد العثمانية، وتم مضاعفة مساحة الجامع من أرض السراي حتى أصبحت (1246م). وسميّ بمسجد الفتح الملكي، وبعد ثورة يوليو تم حذف الملكي ليصبح مسجد الفتح، ويتكون من مربع أساسي للصلاة تقوم عليه قبة علوية، إضافة لعدة ملحقات تضم أروقة ودهاليز وغرف لخدمة أغراض المسجد المتعددة.  

وتشرف الواجهة الرئيسية للمسجد على حديقة قصر عابدين ويتوسطها المدخل الملكي للمسجد، أما المدخل الجنوبي الشرقي فهو مبنى بالحجر ويعلوه عقد مدائني ذو ثلاثة فصوص مُلئت بتكوينات جمالية من المقرنصات والدلايات، والباب الثالث يقع في الضلع الشمالي للمسجد، ويصعد إليه بمجموعة من الدرجات تؤدي إلى فضاء بسيط يدخل منه إلى مكان الصلاة. وللجامع مئذنة تقع في الركن الجنوبي الشرقي منه منفذة على الطراز العثماني. وتخطيط الجامع عبارة عن مربع أساسي تقوم عليه قبة. وقد ألحق بهذا المربع ثلاث مجموعات من المباني. 

الكنيسة المعلقة

سُميت معلقة لأنها بنيت فوق الأبراج القديمة للحصن الرومانى «بابليون»، لتعبر عن انتصار المسيحية المصرية على الاضطهاد الروماني.. وتعتبر الكنيسة المعلقة من أقدم الكنائس الموجودة فى مصر، ويقال إنها بنيت على أنقاض مكان احتمت فيه العائلة المقدسة أثناء الثلاث سنوات التى قضوها فى مصر هروبا من هيرودس.

وقال د. مختار الكسباني أستاذ الآثار الإسلامية بكلية الآثار جامعة القاهرة، إن الكنيسة المعلقة تعتبر من أهم الكنائس الموجودة في مصر، حيث إن عمارة الكنائس في مصر لا تميز من الخارج، إلا الكنيسة المعلقة التي بنيت على برجين من أبراج حصن «بابليون» الذي يمثل فترة الاضطهاد الروماني للمسيحيين في مصر، وتعود الكنيسة إلى القرن الخامس أو السادس الميلادي.

وأوضح الكسباني، أن الكنيسة بدأت بمبنى صغير بناه راهب إثيوبي هو «نخلة الباراتي» وكان ناظر أوقاف الكنيسة المصرية، وبيته موجود في حرم الكنيسة، ثم توسعت عن طريق إدارة الأوقاف القبطية، مشيرا إلى أن الكنيسة تتميز بوجود عناصر من العصر الطولوني والفاطمي والعثماني، حيث تم تجديدها في العصر الإسلامي من قبل بعض الولاة المسلمين الذين حكموا مصر، فقاموا بعمل إضافات لها أثناء ترميمها.

وأشار الكسباني، إلى أن أهم حدث تاريخى مرت به الكنيسة المعلقة هو انتقال الكرسى الباباوى من بطريركية الإسكندرية إليها، مضيفا أن كل المعابد المصرية القديمة كانت توجد بها كنائس إلا المعابد التى بناها الرومان، حيث اعتبروها نجسا بسبب اضطهادهم للمسيحية، كما أن الفكر المصرى كان له تأثير كبير على المسيحية، وسنجد أن كل ما يتعلق بالمسيح يشابه ما يتعلق بحورس المصرى الذى تقول الاسطورة إنه ولد دون أب. 

وأوضح الكسباني، أن مجمع الأديان الذى توجد به الكنيسة المعلقة يعد أقدم مكان تتجمع فيه الأديان السماوية الثلاثة على وجه الأرض، كما أنه أول منطقة تشهد ظهور ديانة قبل الديانات السماوية أيضا، حيث إن حصن «بابليون» بنى على رصيف ميناء مدينة «أون» التي تعتبر أول مدينة علمية ظهرت فيها عبادة الشمس وكان بها معاهد علمية لبحث أمور الديانة فى العالم القديم.

وكانت الآثار قد قامت بترميم الكنيسة المعلقة بمنطقة مصر القديمة وتم افتتاحها فى عام 2014، وشمل المشروع ترميم الكنيسة معمارياً وإنشائيا، حيث تمت معالجة الآثار الناتجة عن زيادة منسوب المياه الجوفية أسفلها عن طريق مشروع شامل لخفض منسوب المياه تحت الأرض، كما تضمن المشروع ترميم الرسوم الجدارية والأيقونات وتطوير منظومة التأمين عن طريق تزويد الكنيسة بكاميرات مراقبة وتأمين مداخلها، وكذلك تركيب تكييف مركزى لتثبيت درجة الحرارة والرطوبة النسبية بالكنيسة، بالإضافة إلى صيانة وتنسيق المداخل والموقع العام لإعادته لما كان عليه طبقا للأصول الأثرية.

ويعود تاريخ بناء الكنيسة المعلقة إلى أواخر القرن الرابع وبداية القرن الخامس الميلادي، وهو ما يتضح من أخشـاب العمارة الأولى الموجودة بالمتحف القبطى وتمثل دخول السيد المسيح إلى أورشليم، وللكنيسة أهمية دينية كبيرة حيث شهدت فى فترات كثيرة من العصر الإسلامى رسامة البطاركة، كما كانت تعقد بها كثير من الاحتفالات الدينية المسيحية الكبرى، وحوكم فيها بعض الخارجين على الطقوس الكنسية، وقد تجددت عمارتها على مر العصور الإسلامية حيث أعيد تجديدها فى نهاية القرن 12 هـ / 18م على يد المعلم عبيد أبى خزام  سنة 1189هـ/ 1775م كما هو مدون على حجاب معمودية الكنيسة، وتشتهر الكنيسة بالأيقونات الموزعة على جدرانها والتى تبلغ حوالى تسعين أيقونة يرجع أقدمها إلى القرن الخامس عشر الميلادى لكن أغلبها يعود إلى نهاية القرن الثامن عشر الميلادى.