حديث الأسبوع

ما بُنى على فساد فهو فاسد

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

هى نفسها منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) التابعة للأمم المتحدة،التى تؤكد فى تقرير فصلى صدر عنها قبل أيام قليلة،أن أسعار الأغذية العالمية عرفت للشهر الثالث على التوالى ارتفاعا جديدا،لتبلغ أعلى مستوياتها فى خمسة أشهر الأخيرة،مدعومة بزيادات كبيرة فى أسعار الزيوت النباتية والسكر ومنتجات الألبان،إضافة إلى الانتعاش المسجل فيما يتعلق بأسعار الحبوب فى الأسواق العالمية،وبذلك فإن متوسط مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار الغذاء،والذى يقيس التغيرات الشهرية لسلة العديد من المواد الغذائية الاستهلاكية الأساسية،قفز إلى 181.7 نقطة بزيادة 2.5 بالمائة عما كان عليه خلال الشهر الماضى،ومما يؤكد توجه مؤشر أسعار هذه المواد إلى الارتفاع أن متوسط مؤشر قياس الأسعار للسنة التى لفظت أنفاسها الأخيرة قبل أسابيع زاد عما كان عليه خلال سنة 2018 بِما معدله 1.8 بالمائة،ولا يوجد لحد الآن ما يقلل من مخاوف استمرار هذا المؤشر نحو الارتفاع،بما يعنى ذلك من تداعيات خطيرة جدا مرتقبة على أوضاع الغذاء فى العالم،خصوصا فى الدول ذات الإمكانيات الضعيفة والمتدنية للحصول على الغذاء وعدم قدرة البشر هناك على إطعام أنفسهم فى المستقبل المنظور،لأسباب ترتبط بالمناخ والقدرات المالية والسياسات الاقتصادية السائدة والمنظمة للعلاقات الاقتصادية العالمية،ولكن أيضا لأسباب تعود إلى طبيعة النظام الاقتصادى العالمي،الذى يحصر جميع مصادر الثراء العالمى فى يد أقلية محظوظة تتحكم فى شرايين توزيع هذا الثراء.
هى نفس المنظمة التى تؤكد فى تقرير آخر صدر بصفة موازية،أن 14 بالمائة من حجم الأغذية المنتجة فى العالم،بدءًا من مرحلة ما بعد الحصاد وحتى مرحلة البيع بالتجزئة والتقسيط،تهدر وتضيع بسبب الاختلالات فى سلاسل الإنتاج والتسويق،وبسبب أيضا السلوكات البشرية المتخلفة،ويرى معدو التقرير أن «المفقود والمهدور من الأغذية يعتبر عنصرا هاما لتحسين الأمن الغذائى والتغذية وتشجيع الاستدامة البيئية وخفض تكاليف الإنتاج».
هكذا إذن،فإن أكبر وأهم منظمة عالمية تهتم بالغذاء العالمى تنبه من خلال وثيقتين متلازمتين فى الصدور إلى قضية ضياع جزء مهم من الغذاء العالمي،فى نفس الوقت الذى تعرف فيه أسعار هذا الغذاء ارتفاعات متتالية فى الأسواق العالمية. والأكيد أن العلاقة ما بين ارتفاع أسعار المواد الغذائية،فى الأسواق العالمية وهدر نسبة مهمة من الإنتاج الغذائى واضحة،إذ فى الوقت الذى يشكو فيه المجتمع الدولى من ارتفاع فى أسعار المنتوجات الغذائية قد يقال بسبب نقص العرض الغذائى لعوامل كثيرة منها الاقتصادية والسياسية،فإن أنظمة الإنتاج والتسويق المعمول بها فى الأنظمة التجارية العالمية مسئولة عن هدر ما يقارب الخمس من حجم الإنتاج العالمى الغذائي،وبالتالى فإن التداعيات الأساسية،سواء المترتبة عن ارتفاع أسعار الغذاء فى العالم أو عن الهدر الغذائى الخطير،تقتصر بصفة رئيسية على الدول التى تواجه صعوبات كبيرة وجمة فيما يخص ضمان الغذاء لمواطنيها،خصوصًا فى القارة الإفريقية التى تضم 21 بلدًا من البلدان 36،التى تقدر منظمة الأغذية والزراعة أنها تجتاز ظروف أزمة تتعلق بالأمن الغذائي،وهى فى حاجة إلى جهود إسعاف استثنائية لتجاوز هذه الظروف الصعبة.
معادلة ارتفاع أسعار المواد الغذائية فى الأسواق العالمية وارتفاع منسوب هدر وضياع الإنتاج الغذائي،خلال مراحل وسلاسل الإنتاج والتسويق لن تكون كافية لشرح وتبرير الاختلالات الفظيعة والعميقة،فى منظومة التوزيع العادل للغذاء بين جميع ساكنة الكرة الأرضية،بل قد يكون أحد أضعف العوامل فى هذا الصدد،بيد أن الإشكالية الحقيقية المرتبطة بأزمة الأمن الغذائى لا تقتصر على الهدر،ولكن تهم أساسًا التوزيع العادل للغذاء العالمى بما يحقق الإنصاف بين سكان المعمور.
ولعل النظر إلى أزمة الغذاء العالمى من زاوية الهدر والضياع قد يكون صالحا بدوره للكشف عن جانب مهم من تجليات الأزمة،فالهدر لا ينحصر فيما يضيع خلال مراحل وسلاسل الإنتاج والتسويق،بل أيضا فيما يهدر ويفقد فى النفايات الغذائية،وعلى هذا المستوى فإذا كان هناك من يبحث عن لقمة أكل فى حاويات المزابل بكثير من أقطار العالم بسبب ضيق الحال،فإنه لا يخفى على أحد أن كميات كبيرة وكثيرة من الغذاء الصالح يلقى بها فى مناطق أخرى من العالم فى حاويات الأزبال،بسبب سوء تقدير من طرف أشخاص أغرتهم الإمكانيات المالية الوفيرة بالمبالغة فى شراء المنتوجات الاستهلاكية،وهكذا يتجلى انعدام التوازن فى توزيع الغذاء بين أشخاص يعانون خصاصا فظيعا وكبيرا،وبين أشخاص أجبرتهم التخمة فيالاستهلاك إلى التسبب فى هدر وفقدان كميات كبيرة من هذا الغذاء. وهذا تجلى واحد من تجليات الظلم الغذائى فى العالم. أما التجلى البارز والأكثر عمقًا يتجسد فى ارتهان الغذاء الذى يرتبط بأهم حقوق الإنسان الكونية، بنظام اقتصادى عالمى فاسد يرتكز على الهيمنة والاحتكار ومراكمة الأرباح المالية،ويفضى إلى سيادة مظاهر الجوع والتخلف واحتقار الإنسان وإذلاله،وما بنى على فساد لا يمكن أن يكون إلا فاسدا.
< نقيب الصحفيين المغاربة

 

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي