مصر الجديدة :

ليل أم كلثوم

إبراهيم عبد المجيد
إبراهيم عبد المجيد

دخلنا فى فصل الشتاء رسميا وعمليا. رسميا فى الواحد والعشرين من ديسمبر، وعمليا مع هطول أمطار نوة الميلاد ونوَّة رأس السنة فى الإسكندرية ومع برد القاهرة. بالنسبة لى الشتاء يقترن بالليل، وطول ليل الشتاء لم يكن يشكل لى مشكلة فهو موسم قراءاتى وكتاباتى وسماعى إلى الموسيقى العالمية وحدى قبل وأثناء وبعد الكتابة. ربما أكون قد تعرضت إلى ذلك فى مقالات متفرقة لكنى اليوم أريد أن أخص الليل والشتاء بحديث عن أم كلثوم بمناسبة عيد ميلادها فى الواحد والثلاثين من ديسمبر 1998، وهو بالمناسبة ليس عيد ميلادها الرسمى، فالرسمى هو الرابع من مايو 1908. وبصرف النظر عن اليوم فأم كلثوم اقترنت عند من أحبها بالليل. ربما باستثناء أغنية «شمس الأصيل» التى كانت إذاعة أم كلثوم زمان تذيعها قبل المغرب أو مع بداية ارسالها فى الساعة الرابعة مساء، وربما أحيانا رباعيات الخيام. لكن الأغانى الأخرى أشهرها كانت كأنما أُبدعت من أجل الليل «فاكر لما كنت جنبى - أهل الهوى ياليل - الأمل - أنا فى انتظارك - رق الحبيب - الأطلال - سهران لوحدى - الآهات - الأولة فى الغرام - جددت حبك ليه» وهكذا تبدو كلها من عناوينها وكلماتها كأنها ذكريات تتواتر على المحب مع صمت الليل وليس أعمق من صمت ليل الشتاء زمان حين لم يكن موجودا غير الإذاعة ثم التليفزيون وغير ذلك لا شيء إلا السينما والمسرح لمن يهواهما أو الجلوس على المقهى مع الأصدقاء أو البيت. ولم يكن فى يد كل شخص موبايل يقطع بتصفحه صمت الدنيا حوله. كانت حفلات أم كلثوم تعنى فراغ الشوارع من الناس بعد الساعة العاشرة مساء باستثناء المقاهى التى يجلس فيها الوحيدون فى صمت يتابعون الحفل، بينما يجتمع فى البيوت الجيران فى أزياء الخروج كأنهم ذاهبون إلى سهرة فى سينما أو مسرح. لم أحب أم كلثوم إلا متأخرا بعد أن تجاوزت السادسة عشرة حين استمعت صدفة إلى أغنية «هو صحيح الهوى غلاب» أدمنتها بعد ذلك وصار لى معها بالليل تفرغ لسماعها من الراديو إذا أذيعت لها أغنية، وكانت محطة صوت العرب حريصة معظم الليالى على إذاعة أغنية «سهران لوحدى». ما أكثر ما تصادف أن أكون عائدا من حفلة الساعة التاسعة من السينما، أى بعد الثانية عشرة ليلا وأرى الشوارع خالية إلا من بعض المقاهى، والأغنية تنساب منها والجالسون قليلون شاردون أقول لعلهم يفكرون فى آمال ضاعت أو قصص حب ضائعة. كان المشهد مثيرا لى جدا ولتكراره دائما صار علامة على زمن عشته. أحببت شعر رامى وشعر بيرم التونسى وألحان رياض السنباطى ومحمد القصبجى والشيخ زكريا أحمد ولم أحب ألحان محمد عبد الوهاب لها. أحسست بها سريعة الإيقاع بينما صوت أم كلثوم ممتد فى الفضاء، هذا وإن كنت أحببت ألحانه لنفسه أو لعبد الحيلم أو غيرهما. لم أره موفقا أبدا مع أم كلثوم وكنت أندهش للضجة من اجتماع قمتين معا، لكن كفن لم أرَ أن هذا الجمع بينهما موفق. لقد استمعت كثيرا من رفاق ماركسيين فى سن الشباب كيف كانت أم كلثوم أفيونا للشعب ولم أوافق أبدا. كنت على ثقة أنها ترقق العواطف على مهل إذا تطول أغنيتها وتتكرر مقاطعها، وتدخل بالناس فى عالم الذكرى الجميل، وتقطع بهم ليل الشتاء الطويل، فيكونون أكثر قدرة على الحياة وهم يتركون مشاعرهم معها بالحزن أو بالفرح تخرج من أرواحهم. ما الذى جعلنى أقول هذا الكلام؟ هل هو حقا موعد ميلاد أم كلثوم أو هو ما حولنا من غناء يمضى بنفس السرعة التى يُؤدى بها ولا يسهر معه أحد؟ حتى الشباب الذين لا يسمعون أم كلثوم سرعان ما ينتهون مما يسمعونه إلى عالم الميديا والأخبار المفجعة حولنا التى تنسيهم ما سمعوه.