إبداعات القراء| قصة قصيرة..«الأرضَ وصَهِيلُ الخيل»

الكاتب محمد عبده
الكاتب محمد عبده

تنشر بوابة أخبار اليوم قصة قصيرة بعنوان " الأرضَ وصَهِيلُ الخيل"، للكاتب محمد عبده، ضمن إبداعات القراء في تبويب صحافة المواطن.

 


ارتدى جِلبَابَهُ في هدوءٍ وصمت كعادتِه لئلا يُوقظُ الموتى من رُقادِهم. خطَّى متباطيءٍ بحذر، وحفيف جلبابه فوق حُطَامُ السابقون يُملس برقةٍ على ذكراهم، في الخارج إستقبله نسيم الخريف بلطفٍ يليق بزائرٌ خفيف باسم الطلة، فأنتعش جسده المرتشح بماء الوضوء، وأستنشهق هواءاً رطباً.هوى قديمٍ وجوى رابضٌ في صدرهِ سرعان ما أنتفض بداخله في هذا الفجر الواعد، فأمتلىء صدره و زفر مُسبحا مستغفراً إلي صلاة الفجر.
***
صهل الحصان مستنفراٌ وقد أصابه الذعر. عشرات الجنود ملتفون حوله، وكأنهم ينفذّون مخطط مُعد مسبقاً لتقييد حريته نصلٌ لامع في ضوء النهار عكس وجه حاملهِ الحانق، وآخر يحمل حبل. والآخرون يحدثون جلجلةٍ بأحذيتهم وأبواقهم، وقد عُبئت القرية بالغبار. فطن الحصان إثر ثورتِه بهلاكهِ. أشاح بعينيه الدامعتين الجامحتين لما آلت إليه بيوت القرية، وقد إشتعل قشها وهربت بعيرها وخيولها كما فعل هو. هدأت الجَلبة بعض الشيء، وسَكَن المتفرجون.. شهيق الحصان إثر فزعته بات مسموعاً للجميع.

 

تخيّل حمامته. ممشوقة القوام، ناعمٌ شَعرُها. عربيةٌ أصيلةٌ زُف إليها منذُ عقود. وها هو الآن لا يعلم مصيرها. إلي أي يدٍ طاغية سُلمت؟ هل هَرِبْت دون أن تُودّعه أم قُتلت؟. تقدم رجلان إحداهما يحمل نصلاً في مواجهته، والآخر من وراءِه.

 

عَمد حاملُ النصل ترويعه إذ فاجئه في قفزة مباغتة سدت حركة الحصان للأمام وأشهر نصله في الهواء مُقرباً إياه من جبين الحصان الهالك، فوثَب الآخير أبياً وكاد يضربه بقدميه الأمامتين، لولا حَذر المجرم الذي أعاد خطوته للوراء وبسرعة غادرة أصابه بُجرحٍ غائر في قدمِه اليسرى، وقفز المجرم الآخر من وراء الحصان، وتشبث بقدميه الخلفيين محاولاً إسقاطه، وقبل التِفَاتَة الحصان الغاضبة، انقضَّ عليه باقي الجمع، فسقط الحصان يزفر آلماً.
***
اصطفَّ المُصَلُّون في تّؤْدةُ، وأقيمت الصلاة. أجفلُ الرجل بعد ترتيل الإمام "إن يمسسك الله بضُرٍ فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخيرٍ فهو على كل شيء قدير". فمضى إلي ذاكرته، وأعُيدت أهوالِ ما كان من فُقدَانُ. لا يستطيع الرجل الفكاكِ من رياح الأمس المتجددة، وكيف يكون وقد انغمست ثنَاياهُ في ذكرى الموت والخِذلان؟. تَشَظّى رأسه بفعل الآسى إلي أن شابت وعَجَزت عن دفع الوجم والحزن على هويةٍ كادت تُطمس ورفيقةُ دربٍ، لم تعد هنا؛ فلم يعد يعرف من أنا؟ من أين آتيت؟ ومن هم؟

 

لم يكن يعرف إلا إجابة واحدة قد وُلدتُ على هذهِ الأرض حيث عاش وتزوج وقاوم وصَاحب الموت إلي أن تنسم الفجر، وآخذ يستقبلهما في سلام. سلّم الإمام ومن بعده المصلون والرجل. لم تمضِ سوى دقائق كان يستغفر فيها حتى سُمع دوي طلقات نيران تآتي من كل صوب من الشارع وتسكن في آذنيه.


صَهلَ الرجل مجدداً وركن إلي حائط المسجد من الداخل، وقد أستشاط غضباً. في الخارج قد تجمع بعض الجنود ومن فوق رؤوسهِم سحاباتِ سوداء. أغمض الرجل عينيه، ورويداً هدأت الجلبة في الخارج، فَسَمع رنين حدوة حمَامَتهُ في الخارج تَشُقُ الدُجى. تَبعَثُ نور الصباحِ والحياة، كأنَّ لا أحد فوقَ هذه الأرض سيدةٌ غيرها. بدون فارسٍ يمطتيها ولا سَّرجِ.

صَمت العالم هُنيِهة، وتوقفت هي أمام الباب. اِتَّكأَ الرجل إلي الحائط، ووقف. تأمل باحة المسجد ووجوه المُحيطين الهادئة وكأن شيئا لا يحدث، وبخطى متعرجة سار إلي باب المسجد. استقَبَله نسيم الصباح مُحيياً. أحْنَت حمامته رأسِها الطويل، مَلَست يده برفقٍ فوق شعرها. وخرج المصلون على إثْره.
***
في الصباحِ كان صَهِيلُ الخَيل لا صدى له والقريةُ نائمة.