حبوا بعض

كارمن

أمنية طلعت
أمنية طلعت

لطالما كان الفن فى مخيلتى مرادفاً لحرية الحياة وحرية البوح بكل الطرق الممكنة. البوح بالقلم أو البوح بالجسد. كلاهما لو امتلكا ناصية الحرية، استطاعا أن يأثرا العقول والقلوب. وربما لهذا السبب نعانى فى بلادنا من انعدام الصدق فى الفن، فدائماً هناك شيء ناقص يسلبنا الوصول إلى ذروة الاستمتاع بالعمل الفنى، فما أكثر المحظورات التى نفرضها على أنفسنا حتى عجزنا عن تقديم عمل فنى متكامل يصل بالمشاهد إلى ذروة المتعة.
هذا هو ما أحسسته تماماً وأنا أشاهد العرض الراقص (كارمن) لفرقة فلامنكو مدريد، التى قدمت خمسة عروض على المسرح الكبير بدار الأوبرا، فوجدتنى أتساءل وأنا أشاهد كل هذه البهجة التى ينثرها الراقصون والراقصات فى الأجواء، بأدائهم الانسيابى السلس، لتشعر وأنت تشاهدهم أن الرقص أمر لصيق بأجسادهم لا يبذلون من أجله مجهودا خاصاً: لماذا لا أشعر بنفس النشوة وأنا أشاهد عروضاً راقصة يقدمها مصريون مهما كانت روعة أدائهم؟
هناك دائماً شيء ناقص فى أى مشهد راقص بأى عرض مصرى، سواء كان مسرحاً أو سينما أو تلفزيون. هناك خوف يصيب العضلات بتشنج ما، يجعل جسد أعتى راقص أو راقصة منهكاً أو عليلاً أو ربما على أفضل الأحوال (بائساً). يصلك الشعور بالخزى وهو ينضح من أجسادهم، وكأنهم يرقصون وفى قرارة أنفسهم يوجد نزاع بين عشقهم للرقص ونظرة المجتمع السيئة له، فالراقصون والراقصات المصريون يخافون من لمس بعضهم البعض وهم يؤدون الكريوغراف المصمم لهم، ترتدى الفتيات بناطيل تلتصق بسيقانهن تحت الأردية، فتشعر بأنك تشاهد عرضاً محرماً بشكل أو بآخر، فيصيبك التشنج وأنت على مقعدك.
فى العرض الإسبانى «كارمن» انطلقت أجساد الراقصين والراقصات فى سماء الحرية، فعبروا بأجسادهم فى إبداع تماهينا معه وهم يدبون بأقدامهم على خشبة المسرح. يتطايرون بخفة ريشة تداعبها نسمات الهواء، ويعبرون عن أدوارهم بمسرحية كارمن بصدق بليغ، فأجسادهم ليست مكبلة بأغلال العار، فتجد الراقصات يرفعن ثيابهن كاشفات عن سيقانهن بطرق توصل إلى المشاهد الإحساس السليم بأنه يشاهد فتيات غجريات يتصارعن ويتبارين ويغوين الضباط والعساكر، بينما المشاهد التى تجمع بين كارمن والضابط خوسيه تخرج مريحة وعفوية، فهما لا يتلامسان وبينهما أسلاك شائكة من العيب والعار والخوف من الملاحقة!
ضجت القاعة بالتصفيق بعد انتهاء آخر مشهد من «كارمن». السيل غير المنقطع من تصفيق الجمهور أصاب الفرقة بالانتعاش والحبور، فقرروا الرد علينا بتحية أحسن منها، فقدموا رقصات إضافية أشعلت التصفيق أكثر. ربع ساعة كاملة من التصفيق، اضطر الراقص والراقصة الرئيسيان أن ينهياها بأناقة وعذوبة فأغلقا ستائر المسرح يأيديهما وأنهيا اللقاء بقبلة أنارت ليلنا بآلاف النجوم.