قلب وقلم

النحو فى غيابات الجب

عبد الهادى عباس
عبد الهادى عباس

لم تكن الساعة الكبيرة بمسجد النصر بمحافظة الشرقية قد أعلنت بعدُ عن تمام العاشرة صباح الجمعة قبل الماضية حتى تزاحمت المناكب واصطفت رؤوس الخلايق انتظارًا للخطبة الغراء.. يريدون أن يزدادوا بؤسًا فى جحيم العلم، وأن يخلعوا الرهيف فى نعيم الجهل؛ أن يمتاحوا لغة راقية صافية من زمزم الوكيل الأقدم بالأوقاف.. كان هذا الأمل البسيط يُسيطر على مخايل الزاحفين صوب المسجد من القرى المجاورة فور أن علموا أن سماحة الشيخ جابر طايع، مدير قطاع الدعوة بوزارة الأوقاف، هو الذى سيعتلى صهوة المنبر لهذا الأسبوع.
اصطفت قيادات المحافظة فى الصفوف الأولى، تبعتها «عمم» زاهية مغسولة حديثًا، أتت راغبة أو راهبة.. طقطق الحضور آذانهم، وأرهفوا حواسهم، وجهزوا عيونهم للبكاء تأثرا بما سيقوله العالم الأزهرى النحرير، وليغرفوا من معينه المُترع بالعلوم الفقهية اللوذعية.. حتى إذا تحدث «سيدنا» أراح أبو حنيفة ساقيه، وفرد يديه، وتثاءب متكئًا، فمن أمامه لا يستحق كبير عناء!
ما أن تكلم مولانا حتى تجاهل عامدا متعمدا ومع سبق الإصرار والترصد الاعتراف بحروف الجر، فجاءت كلماته بعدها منصوبة منكوبة تبكى حالها وتشكو مآلها؛ تنافرت الحروف وتدابرت، وكره بعضها بعضًا، وأصبحت لوغاريتمات خوارزمية تاه عندها الحاضرون بين فاعل «الإمام» ومفعوله، بين «نصبه» ومكسوره، وابتأسوا وانتكسوا بعدما رأوا «العمّة» الثانية فى الأوقاف تجرجر النحو وراءها إلى غيابات الجُبّ لتدفنه هناك وتُكبر عليه أربعًا!
وقد كنتُ أسمع الخير عن الشيخ جابر حتى رأيتُ خطبته المُعفرة بوعثاء اللغة وعثراتها الكأداء؛ ووراء الأكمة ما وراءها، كما تقول العرب.
اللغة العربية ليست حِلية أو زينة يتجملُ بها الدعاة فى المحافل العامة والمهارج الرسمية؛ إنها دين وحياة وهوية، لا يجوز أن يتخلى عنها رجل الشارع فى أى مهنة كان، وعلى الداعية أن يتعمق معارجها ليعرف الفقه والتأويل.
لا أنكر أبدًا جهود وزارة الأوقاف فى سنواتها الأخيرة، خاصة خطوتها المباركة بإنشاء أكاديمية لتدريب الأئمة الجُدد وصقلهم، وقد زرتها واطلعتُ على أقسامها؛ كما لا أنكر حركة الوزير الدائبة التى ضبطت كثيرًا من أمور الوزارة المُبعثرة؛ ولكن لن يستقيم الحال واللسان أعوج!