بالشمع الأحمر

حياة أوتوماتيكية!!

إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى

قبل أسابيع هاجمتُ مشروع قانون حماية الذوق العام، لأننى كنتُ مقتنعا تماما بأنه يفتقر إلى الكثير من المنطق، ولم أتراجع عن قناعتى حتى بعد أن علمت أن ستين نائبا وقعوا مع زميلتهم التى اقترحته، كى يأخذ المشروع مساره داخل البرلمان، وبمجرد نشر مقالي «بوليس الأخلاق!» تلقيتُ اتصالا هاتفيا من المستشار القانونى لمؤسسة أخبار اليوم محمد لطيف، ليؤكد اتفاقه مع ما قلته عن كفاية القوانين القائمة، لمكافحة الجرائم التى ذكرتها النائبة فى مشروعها، وقدّم مثالين ليُثبت أن تشديد العقوبة قد يأتى بنتائج عكسية، حيث أشار إلى أن إعدام تجار المخدرات لم يقض عليها، بل زاد سعرها لارتفاع معدلات المخاطرة، كما أن فرض العقوبة نفسها على جرائم الاغتصاب، جعل مرتكبها يزيد عليها جناية أخرى هى القتل، لأن التخلص من الضحية يُقلّل احتمالات التعرف عليه، أى أن الجانى حصل على ما يشبه العرض الترويجى، فأصبح بإمكانه ارتكاب جريمتين أو ثلاث مقابل عقوبة واحدة!
بعدها بأيام لم يكتف د. على عبد العال رئيس البرلمان بانتقاد المشروع، فاستعمل مصطلح « التوقيع الأوتوماتيكى»، وفسره بأن من وقعوا عليه لم يكونوا ليفعلوا ذلك لو قرأوه، لأنه من الصعب تنظيم الذوق العام بقانون. والكلام السابق دقيق لاستحالة الاتفاق على تعريف مُوحّد للذوق العام،
 فالسلوكيات نسبية، تختلف باختلاف الزمان، بل وحتى داخل أماكن عديدة فى البلد نفسه. لكن بعيدا عن مضمون القانون يظل مصطلح «التوقيع الأوتوماتيكى» هو الأهم من وجهة نظرى، لأنه يعبر عن مشكلة عامة، فكثيرون منا قد يُنصّبون أنفسهم قضاة فى وقائع عديدة دون الإلمام بتفاصيلها، ويعيد آخرون بث منشورات كاملة على وسائل التواصل الاجتماعى دون أن يتكبدوا عناء قراءتها، معتمدين على أن المنشور «بيبان من عنوانه»! وقبل انتشار «فيس بوك» وأمثاله كان المثقفون أول ضحايا هذه الظاهرة، فلأنهم مستبعدون غالبا من أى مشاركة مجتمعية أو سياسية، كان تفاعلهم الوحيد يجرى عبر بيانات متتابعة، وكانت عملية التوقيع تتم فى أحوال كثيرة عبر الهاتف، فيكفى أن يتصل أديب بآخر ليذكر له موضوع البيان بصفة عامة، ويسأله عن رغبته فى التوقيع، وعادة ما تتم الموافقة على المضمون فى المجمل، ليفاجأ البعض بتفاصيل قد تكون ضد قناعاتهم! كان يُفترض أن تحل وسائط الاتصال الحديثة هذه المشكلة، إذ أن المضمون بالكامل يكون مطروحا أمام كل منا، قبل التوقيع على بيان أو مشاركة منشور، غير أن الظاهرة استمرت لأننا نمتلك القدرة على كتابة التعليقات السطحية لساعات طويلة، بينما نبخل على القراءة المُتأنية بدقائق معدودة!
يتهم البعض مستخدمى وسائل التواصل الاجتماعى بأنهم يسيرون كالقطيع وراء أى وجهة نظر دون تفكير، والغريب أن عددا من نواب البرلمان ارتكبوا الخطأ نفسه، فوقعوا على مشروع القانون المقترح دون أن يقرأوه، وهو مؤشر يستحق التوقف ليس فى محيط النواب وحدهم، بل على مستوى المجتمع ككل، فكثيرا ما نعيش حياتنا وفق أداء أوتوماتيكى، نقوم بالتقليد غالبا دون تفكير، ونتحامل على شخص من باب مجاملة الآخرين، ونتفاعل بعواطفنا دون أن نحاول الإلمام بكل ظروف الواقعة، على الأقل كى يصبح تعاطفنا أشد تأثيرا. وقد يكون هذا النسق الحياتى مريحا على المستوى الفردى، لكنه يتحول إلى خطر مُستقبلى على مستوى الأمم، لهذا أقترح على النائبة أن تتقدم بمشروع قانون لحمايتنا من أضرار «الحياة الأوتوماتيكية»، لكنى أشك أنها ستجد من يوقع معها هذه المرة، لأننى أعتقد أن رسالة رئيس البرلمان وصلت للنواب.