تساؤلات

مشاهد من الحى الراقى

أحمد عباس
أحمد عباس

وبينما كانت أسوار شرفات حى مصر الجديدة الراقى عامرة بأكواب شاى "ساعة العصارى"، تاركة علامات دائرية على إثرها، وأحبال الأسبتة تتدلى مربوطة بكل سور، تنتظر صباحًا "بتاع الفول والبليلة"، حين يضع طلب كل صاحب سبت فى هدوء، ومن دون إزعاج، يمضى عقب فجر كل يوم، فقط يملأ الإناء الفارغ الذى بات فى انتظار "الفوال" الدائر على عربته الكارو النظيفة، ثم يسحب الحبل بقوة مرتين فى إشارة صامتة إلى أن الطلب جاهز، والفول الصابح المسوى على نار هادئة القادم من أحد أحياء القاهرة الفاطمية القديمة، ينتظر "الأكيلة"، كانت الجدات تصفه بأن له "وش مختوم"، فى إشارة إلى حُسن تدميسه.
ولا تمضى دقائق حتى يظهر بائع الجرائد المار يوميًا على نفس أصحاب البيوت، لا ينادى "أخبار، أهرام، جمهورية" فقط يعبر فى نفس هدوء "الفوال"، يلف الصحيفة بعناية غريبة، ثم يقذفها قذفا، فلا تُخطئ طريقها، تصيب شرفتها المقصودة دون أن تخطئ مسارها لشرفة أخرى.
أما مُلاحظ البلدية الآتى على دراجته يتفقد يوميًا حال أشجار الحى، أيتها تحتاج "سندة" خشبية من جذوع أشجار جافة، يرصد من أى زاوية يجب أن تُشد برباط يدوى مجدول، لا يُحدث ثقبا أعمى فى جذع الشجرة.
كانت الأحاديث تتناقل بين أصحاب الشرفات من بيت لبيت، ومن شرفة لشرفة، فلا نهار يبدأ إلا بعد أن يبين "الكمسارى" يترجل من إحدى عربتى الترام القديم، يُعلق "السنجة" فى السلك الكهربى الموصول من الأعلى، يُعيد التيار مرة أخرى، ويعلن بدء يوم جديد، ولا ساعة عصارى تحل دون يُشاهد أطفال الأحياء المجاورة يجرون خلف "الترام" ليحجزوا مكانهم فى "السبنسة"، أو يركبوا "تفليتة" هربًا من دفع ثمن التذكرة التى لم تك تبلغ 5 صاغات مصرية، أما هدير ترام مصر الجديدة، فكان يؤنس هذه الحالة، ويبعث بألفة حميمة، قريبة إلى الذات.
أتذكر كل هذه المشاهد وأنا أتصفح هجومًا ضاريًا على مشروع كبارى مصر الجديدة الذى يجرى العمل به الآن، فلا أرى منها هجومًا واحدًا على حق، فلا أصبح من المعقول الإبقاء على "الترام"، وليس ما يدور إلا نواح دائم على "مذبحة الأشجار"، وأنا فقط أتساءل: أى أشجار؟!
هل هذه الجذوع الخشبية الجافة الواقفة على حافتى الطريق تسمى أشجارا، هل تلك الأوراق الصفراء الجافة المُعلقة بالكاد على كل فرع هى أشجار!.. الحقيقة أنها بقية باقية من أشجار اختنقت مأزومة على جذوعها من عوادم سيارات لا ترحم، وزحام لا ينفك أبدًا، وعبث خرب الحى كله، أوله وآخره.
هل عاد سكان الحى هم أنفسهم من كانوا قاطنيه من البداية، بالطبع لا، فالشريحة تغيرت، والسكان تبدلوا، ولم يعد الحال كما كان، وحتى إن بقوا على حالهم، أيهما أفضل، أن يسير الحى بشكل دءوب فلا يخنق سكانه، ولا زائروه، أم أن نتوقف أمام "مناحة مذبحة الأشجار"؟.
الحقيقة أن الحياة تبدل حالها، والزحام أخفى كل معالم نعرفها، وهذه طبيعة الأمور فى بلادنا، فلا نحن فى لندن، ولا باريس، "فوقوا"، نحن لانزال فى القاهرة، وليس علينا إلا أن نجد حلولا آنية لمشكلات نحن من أوجدناها، أحياء القاهرة القديمة يجب ألا تسير بـ"الزق"، وأنا إن كنت لأحيى أحدا، فلا أحد يستأهل التحية أكثر من هؤلاء الذين قرروا إنقاذ أحياء العاصمة من زحام مميت، يلتهم الوقت، ويقتل الإلتزام، القاهرة يجب أن تسير بسرعة الصاروخ.. أما أنا فلاأزال فى انتظار مشروع ضخم مثل مجموعة كبارى مصر الجديدة، ولكن فى أحياء مدينة نصر، والعباسية، وجميع أحياء القاهرة القديمة.