يوميات الأخبار

متغيرات طارئة.. وظواهر سلبية

محمد بركات
محمد بركات

هذه المآسى.. وتلك الظواهر السلبية التى طرأت على الشخصية المصرية مؤخرا، تدعونا الى الدراسة الجادة والبحث المتعمق حول.. ماذا جرى للمصريين؟!

كان للجريمة بالغة البشاعة التى ارتكبها كمسارى القطار، المتجه من الاسكندرية إلى الأقصر نهاية الشهر الماضى، الذى حرض شابين على القفز من القطار أثناء سيره، مما تسبب فى مصرع أحدهما واصابة الآخر، وقع الزلزال فى نفسى وفى نفس كل انسان، مازالت فى وجدانه وحشايا قلبه وفؤاده بقية من مشاعر الرحمة والتعاطف التلقائى والطبيعى، التى اختص بها الله سبحانه وتعالى خلقه من البشر، وغيرهم من المخلوقات الأخرى التى تسبح بفضله ونعمائه، على اختلاف صنوفهم وأنواعهم.
هذا الزلزال الذى هز القلوب والمشاعر، لم يكن ناجما عن وفاة الشاب تحت عجلات القطار، رغم قسوة وبشاعة ذلك، ولكنه كان راجعا فى جوهره وأساسه، الى ماكشف عنه الحادث المأساوى من غياب للمشاعر الانسانية الرحيمة لدى البعض منا، وجمود بواعث ودوافع التعاطف الانسانى لدى البعض الآخر،..، وهو ما أدى إلى غلظة السلوك والجنوح للعنف والفظاظة.
التعاطف الانسانى
كان الغياب للمشاعر الانسانية الرحيمة لدى البعض منا هو ما ظهر جليا فى تلك الصورة بالغة البشاعة والقسوة، من جمود مشاعر التعاطف الانسانى الطبيعى والتلقائى، المفترض تواجدها لدى عموم الركاب وعامة الناس عندما يتواجدون، حتى ولو بالصدفة فى موقع أو مكان يتعرض فيه أحد المواطنين لأزمة طارئة، أو ظروف سيئة، لا يستطيع الخروج منها أو مواجهتها.
عادة يكون التصرف المتوقع والمعتاد فى مثل هذه الأحوال من المصريين بالذات، هو أن تتحرك فيهم مشاعر التعاطف الانسانى، ويسارعون لنجدة الشخص المأزوم، ويساعدوه بكل السبل على الخلاص من أزمته.
ولكن ذلك لم يحدث فى تلك الواقعة، حيث لم يتحرك أحد لتقديم أو حتى عرض المساعدة على الشابين، بل اكتفوا بالمشاهدة ومتابعة تطور الأحداث المؤسفة، التى انتهت بالجريمة المفجعة والمأساة الدامية.
وفى ذات المشهد، كان المفترض طبقا لنصوص القانون المعمول به فى السكك الحديدية، أن يقوم «الكمساري» بالتحفظ على الشابين وتسليمهما الى شرطة السكة الحديد، نظرا لركوبهما القطار دون تذاكر سفر، وعدم قدرتهما على دفع قيمة التذاكر وايضا الغرامة،..، ولكن «الكمساري» لم يلتزم بالقانون.. بل خيرهم بين الدفع أو مغادرة القطار.. فكان ما كان وحدث ما حدث.
فى مثل هذه الحالات كان من المفترض طبقا لما جبل عليه المصريون من صفات وطبائع، ألا تصل الأمور الى هذا الحد على الاطلاق، فلم يكن واردا أن يقوم «الكمساري» بما قام به، كما لم يكن واردا على الاطلاق أن يقف الركاب مثل هذا الموقف السلبي،..، بل على العكس كان المتوقع والمفترض أن يقوم الركاب كلهم أو بعضهم على الأقل بمنع «الكمساري» من تحريض الشابين على القفز من القطار، والحيلولة دون الوصول الى المأساة،..، ولكن احدا لم يتحرك، وهذه مأساة تحتاج الى بحث ودراسة، وتتطلب البحث بجدية حول ماذا جرى للمصريين حتى تغيب مشاعر الرحمة والتعاطف الانسانى التى كانت سمة غالبة لديهم.
مبعث القلق
ولكن.. أصارحكم القول أن حادثة القطار رغم بشاعتها وما تحتويه من معنى وما تشير اليه من دلالة، لم تكن وحدها فقط هى التى هزت الوجدان وعصرت القلوب،..، بل لقد اصابنا جميعا بالجزع والروع والاضطراب الشديد والقلق العظيم ايضا من ذلك الكم المتصاعد من الجرائم بالغة العنف والقسوة التى انطلقت من عقالها فى الفترة الأخيرة،..، بما تمثله من عنف لم يكن متوقعا، وقسوة لم تكن متخيلة، ولم يكن احد منا يتصور امكانية صدورها عمن صدرت منهم،..، من الآباء والأمهات والأزواج والزوجات، وكذلك من الأبناء الصغار تجاه بعضهم بعضا، وايضا تجاه شركائهم فى العيش وسبل الحياة، سواء كانوا من الجيران أو المعارف أو حتى ممن لا تربطهم بهم أواصر على الاطلاق.
وفى هذا أحسب أننا قد توقفنا جميعا أو غالبيتنا على الأقل، بالدهشة والذهول والالم ايضا، أمام ما وقع من جرائم بالغة القسوة والعنف فى نطاق الاسرة، فى الآونة الأخيرة،..، فهذا أب يقتل أولاده وزوجته ثم يقتل نفسه انتحارا.
وآخر يقتل أولاده الأربعة وشريكة حياته التى هى أمهم وزوجته، ويقوم بفصل رءوسهم عن أجسادهم، وثالث يلقى بطفليه الصغيرين فى عمق النيل، وزوجة تقضى على حياة زوجها بالاتفاق مع صديق لها،..، وغير ذلك كثير وعلى نفس الدرجة من القسوة والعنف غير المتوقعين ولا المتصورين،منها على سبىل المثال  وليس الحصر الجنوح للعنف والعدوان لدى الصبية الصغار.
وفى ظل ذلك أحسب أننا مضطرون للاعتراف بأن هناك تعاظما للكثير من الوقائع السلبية والأحداث العنيفة، التى تجرى فى مجتمعنا هذه الأيام خلال التعامل والاحتكاك اليومى بين أفراده بصورة لافتة، ومتكررة، بحيث أصبحت للأسف ظاهرة تستوجب الوقوف عندها والتدقيق فيها من المختصين من علماء الاجتماع والخبراء فى علم النفس، لما تحمله فى طياتها من مؤشرات ودلائل خطيرة، تستوجب المواجهة والعلاج قبل أن يستفحل أمرها ويتعاظم خطرها.
متغيرات جسيمة
وفى هذا السياق لعل الغالبية العظمى منا قد لفت انتباهها بشدة أن هناك متغيرات جسيمة طرأت على الشخصية المصرية فى الآونة الأخيرة، بحيث أصبحت ظاهرة واضحة وملموسة تستدعى بالفعل التوقف عندها بالفحص والتأمل والدراسة، بحثا عن الأسباب التى تقف وراءها ومحاولة الوصول للدوافع التى أدت اليها.
ورغم أن الغالبية تؤكد على سلبية هذه المتغيرات فى مجملها ومحتواها، إلا أن هناك من يرون أن الموضوعية تدفع الى صعوبة القبول بشمول هذا الرأى، ومخاطر الأخذ به وافتراض صحته بالعموم وبالكلية، نظرا لما يحمله فى طياته من تعميم غير مقبول.
وفى هذا يقول أصحاب هذا الرأى، بأن هناك متغيرات ظاهرة طرأت بالفعل على الشخصية المصرية فى الآونة الأخيرة، ولكن هذه المتغيرات فيها السلبى وفيها أيضا الايجابى. ويؤكدون أن ما هو إيجابى فى محتواه ومضمونه، يستحق التأييد والدفع به وتعظيم أثره وجدواه، فى حين أن السلبى يستوجب الرفض والاستجهان والمواجهة والتصحيح.
وفى هذا الاطار يرى علماء الاجتماع وخبراء علم النفس الاجتماعى، أن تلك المتغيرات بما فيها من ايجابيات وسلبيات، هى نتاج متوقع الحدوث فى كل المجتمعات التى تتعرض لأحداث جسام، أو تمر بوقائع مصيرية، نظرا لما يجرى فيها فى ظل هذه الظروف غير المعتادة من انفعالات فوارة ومواجهات حادة، مثل تلك التى جرت فى مصر خلال السنوات الماضية منذ الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١، وماتلاها من تفاعلات صاخبة وأحداث ملتهبة كان لها آثارها الايجابية والسلبية على المجتمع وأفراده.
انحراف القيم
ويرى علماء الاجتماع وعلم النفس الاجتماعى، أن الجانب السلبى من المتغيرات التى طرأت على الشخصية المصرية، تركزت فى ذلك الانحدار الاخلاقى والقيمى الذى أصاب البعض منا، وطفح على السطح بصورة حادة ولافتة، فى مواقف كثيرة، منها على سبيل المثال وليس الحصر ذلك الجنوح الى الفوضى وعدم احترام القانون لدى البعض، بالإضافة الى الميل والجنوح نحو العنف وعدم التسامح، وغيبة قيمة العمل، واشياء أخرى كثيرة تستحق الاهتمام البالغ نظرا لما تمثله من خطر على المجتمع كله.
وفى هذا نجد ان رؤية المتخصصين والدارسين للمتغيرات الاجتماعية، التى طرأت على المجتمع، تعطى أهمية كبرى للأثار المترتبة على هذه الظواهر والصفات السلبية التى انتشرت فى السنوات الأخيرة لدى البعض منا، والتى تمثلت فى ظواهر الاهمال والتسيب وعدم الانضباط، التى تفشت فى زوايا وأركان العمل وأثرت على الانتاج والجودة، وأصبحت من البلايا التى ابتلينا بها،...، ولكن الظواهر السلبية الطارئة على الشخصية المصرية، لم تقف عند تلك الحدود بل تجاوزتها الى أمور ونواح كثيرة،..، حيث يلمس المتأمل لأحوال المجتمع السائدة الآن ومنذ فترة ليست بالقليلة الكثيرمن هذه السلبيات طفت على السطح الاجتماعى، تشير فى مجملها إلى بروز حالة من التربص العام بين الأفراد وبعضهم البعض.
وحالة التربص هذه أصبحت للأسف تسود التعاملات وتحكم تصرفات الأفراد، وتتحكم فى ردود أفعالهم تجاه بعضهم وتجاه الأحداث والوقائع والقضايا أيضا،..، والأكثر اسفا أن هذه الحالة باتت مقترنة بالحدة والتشنج ومصحوبة بالرفض المسبق لكل الآراء المخالفة بل ومقترنة ايضا بالسعى لتسفيه كل الرؤى المخالفة.
>>>
كل ذلك وغيره كثير يدعونا للتأكيد على أهمية وضرورة البدء فورا وبصفة عاجلة، للمواجهة الجادة والحاسمة للعديد من الظواهر السلبية التى طرأت على الشخصية المصرية فى الأونة الأخيرة، والتى أصبحت بالفعل تشكل خطرا وتهديدا مباشرا للسعى الجاد للتنمية الشاملة وبناء الدولة المدنية الحديثة والقوية، والعبور بالوطن الى المستقبل الأفضل بإذن الله.