حكايات| رحلة البحث عن ضريح الرسول في مصر (3).. محمد «الأصغر»

ضريح محمد الأصغر
ضريح محمد الأصغر

أخبار الأدب: عبدالمجيد عبدالعزيز
استكمالا للرحلة التي خاضتها للبحث عن أسرار مسجد محمد الأنور وصاحبه، والذي اختير ليكون ضريح للنبي ، تطرح صحيفة «أخبار الأدب» تساؤلات جديدة عن هذا المقام الغامض، وتصل لفرضيات أخيرة قد تقربنا من حقيقة ساكنه.

لقراءة الجزء الأول من الحكاية:  رحلة البحث عن ضريح الرسول في مصر (1)

لقراءة الجزء الثاني من الحكاية: رحلة البحث عن ضريح الرسول في مصر (2) .. المساجد المُعلقة

سؤال غريب منطقي!
وهنا نعيد السؤال مجددا، هل المساجد الحاكمية المعلقة -والتي من بينها مسجد محمد الأصغر- هي ذاتها المشاهد الثلاثة التي بناها الحاكم لاستقبال جثامين الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه؟
بعد هذا الاستعراض، يبدو السؤال منطقيا، فالأولى ثلاثة مساجد، والثانية ثلاثة مشاهد، والأولى بناها الحاكم بأمر الله والثانية بناها الحاكم كذلك.
أما عن موضع بنائها، فمشاهد النبي وصاحبيه بنيت على طريق رئيسي يربط بين مدينتي الفسطاط والقاهرة بالقرب من مسجد أحمد بن طولون، والمساجد الثلاثة الحاكمية المعلقة بنيت كذلك بالقرب من مسجد أحمد بن طولون، على الطريق الذي هو امتداد شارع المغربلين حاليا، كما يقول المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار" في معرض حديثه عن حارة "المصامدة"، وهو طريق رئيسي كان ولايزال يبدأ من باب زويلة وينتهي عند مشهد السيدة نفيسة، أي أنه كان يربط بين الفسطاط والقاهرة.

خريطة تظهر الطريق الذي يربط بين القاهرة والفسطاط

خريطة تظهر الطريق الذي يربط بين القاهرة والفسطاط

اقرأ حكاية أخرى|  أحله لثلاثة أيام.. قصة «نبيذ» أحبه النبي

أما عن تاريخ بناءها، فيقول أبو الحسن السخاوي أن المساجد الحاكمية المعلقة بنيت في شهر رمضان سنة 402هـ، وهو تاريخ يتوسط الفترة الزمنية بين المحاولتين الأولى والثانية التي سعى فيهما الحاكم لنقل جثمان النبي وصاحبيه من المدينة إلى مصر، وهو ما يتناسب إلى حد كبير مع فرضية أن المساجد المعلقة هي نفسها المشاهد التي أعدت لاستقبال الجثامين الشريفة.
ولكن إن صح أن المساجد الحاكمية المعلقة، والتي من بينها مسجد محمد الأصغر، هي ذاتها المشاهد التي بناها الحاكم لاستقبال جثامين الرسول وصاحبيه، فلماذا تجاهلها المؤرخون ولم يقولوا ذلك صراحة؟ 
ولكي أجيب على هذا السؤال، وضعت الفرضية التالية التي يمكن أن تكمل الصورة وتجعلها واضحة المعالم، مقنعة التفاصيل، والتي يمكن أن تفسر الكثير من الغموض حول مسجد محمد الأصغر وحقيقة هذا الشخص الغامض الذي لا نعرف عنه شيئا:

◄ بنى الحاكم بأمر الله المشاهد الفاطمية الثلاثة لاستقبال جثامين النبي وصاحبيه في مطلع القرن الخامس الهجري، في منتصف الفترة بين المحاولتين الأولى والثانية لنقل الجثامين، وذلك في الموضع الذي حددناه بشارع الخليفة بالقرب من مسجد السيدة سكينة، على الطريق الواصل بين الفسطاط والقاهرة، في مواجهة جدار القبلة بمسجد أحمد بن طولون.
◄ ظلت المشاهد الثلاثة قائمة ومضاءة ولها السدنة والخدمة ومهيئة لاستقبال الجثامين الثلاثة لعدة عقود متواصلة منذ بنائها وحتى اختفاء الحاكم الذي كان لايزال يأمل في نقلها يوما، كما استمر الاهتمام بها عقب اختفائه وحتى كتابة البكري لكتابه "المسالك والممالك" بعدها بأربعين سنة، وربما استمر الاهتمام بها حتى نهاية الدولة الفاطمية، وتفسير ذلك أن الفاطميين توارثوا تلك الرغبة في نقل جثمان النبي وصاحبيه ولم تنته تلك المحاولات باختفاء الحاكم، بل كررها الخليفة الحافظ الذي حكم ما بين 524-544هـ، حيث أرسل رجاله للمدينة لنقل الجثمان سرا، وهي المحاولة التي يروي تفاصيلها الدكتور محمد حلمي محمد أحمد، في تحقيقه لكتاب "اتعاظ الحنفا" وكيف انتهت إلى الفشل.
◄ الاهتمام الرسمي من قبل الدولة بهذه المشاهد، انتهى بانتهاء الدولة الفاطمية، إلا أن قدسيتها ظلت محفوظة لدى نفوس العامة، وهو ما يتناسب مع العقلية الجمعية للشعب المصري عبر تاريخه، فظل المصريون يقدسونها، حتى مع نسيان السبب الأساسي الذي أنشئت من أجله بفعل الزمن، وليبرروا اهتمامهم وتقديسهم لهذه المشاهد لجأوا لاحقا إلى فكرة "الرؤيا" في تحديد المدفون بهذه المشاهد، ونسبوها لأشخاص قالوا إنهم من آل البيت حتى يحافظوا على قدسية المكان، وربما كان هناك من ينتفع من اهتمام الناس بهذه المشاهد وتقديسها فدفع في هذا الاتجاه.
◄ ومما يرجح ذلك، حالة الارتباك الكبير في تحديد الشخص المدفون في مشهد "محمد الأصغر"، وعدم وجود شخص يدعى "عبدالرحمن الطولوني"، وعدم وصول أي معلومات واضحة عن المشهد الثالث.
◄ اختلط الأمر على المؤرخين بشأن المساجد الحاكمية المعلقة، ولم يقطعوا بأنها هي ذاتها المشاهد التي بناها الحاكم بغرض استقبال جثامين النبي وصاحبيه، وقد يرجع السبب في ذلك إلى الحالة الاستثنائية للمباني الثلاثة، فالمشاهد بنيت وأقيمت عليها الخدمة وهي لاتزال فارغة، ثم مات الحاكم وهي لا تزال عليها الخدمة -بحسب كلام البكري-، ووضع كهذا كفيل بأن يحدث خلطا لدى العامة ولدى المؤرخين أنفسهم.
◄ كما أن "البكري" لم يحدد مكان المشاهد الثلاثة بدقة في "المسالك والممالك" ليعين المؤرخين على الربط بين الفكرتين، وفي ظل انتفاء الهدف الأساسي من بناء المشاهد وهو استقبال الجثامين الشريفة، لم يعد هناك دافع قوي لدى المؤرخين للبحث خلفها.
◄ أضف إلى ذلك، أنه عادة لا يبذل المؤرخون جهد كبير للبحث خلف مشاهد الأولياء وآل البيت، لأن مجهودهم ينتهي عادة دون الوصول إلى معلومة موثوقة، ولا يستجلب عليهم ذلك البحث سوى سخط العامة الذين يقدسون مثل هذه المشاهد، لذا اعتاد المؤرخون إما نقل المتواتر حول تاريخ المشهد دون تدقيق، أو تجاهل الأمر برمته خاصة إذا كان المشهد من مشاهد الرؤيا أو مقطوع بعدم صحته أو متعلق بشخصية لا يذكر التاريخ عنها أي شيء، وهو ما نراه في موسوعة "مساجد مصر وأولياؤها الصالحون" حيث تجاهلت الدكتورة سعاد ماهر مشهد "محمد الأصغر" تماما ولم تذكره في موسوعتها التي تناولت مشاهد أخرى في الشارع ذاته، من بينها مشهد السيدة سكينة الذي يبعد عن "محمد الأصغر" عدة أمتار.
◄ لو أن مشهدا من الثلاثة يمكن أن يكتب له الصمود أمام عوادي الزمن والاستمرار قائما حتى الآن، فسيكون بطبيعة الحال هو المشهد الذي حظي بأكبر قدر من اهتمام العامة وتقديسهم، ما يعني أن المشهد المعروف حاليا باسم "محمد الأصغر" هو على الأرجح، المشهد الذي خصصه الحاكم لاستقبال جثمان الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي كان بطبيعة الحال هو الأكبر حجما ومساحة، والذي تقلصت مساحته مع مرور الزمن بعد تهدم الكثير من عمارة المشهد الأصلي.
◄ ما يؤيد فرضية أن مشهد "محمد الأصغر" هو المشهد الذي خصصه الحاكم لاستقبال جثمان النبي، هو اختيار الاسم الذي أطلق من قبل العامة على من زعموا أنه دفن في المشهد، وهو اسم "محمد الأصغر"، فهو "محمد" آخر غير النبي الذي كانوا ينتظرون وصوله، وبما أن الرسول "محمد الأكبر" لايزال مدفونا في المدينة، فمن المقبول أن تخترع العقلية الجمعية "محمد أصغر" تزعم أنه مدفون في المشهد لتبرر تقديسه.

قرأ حكاية أخرى|  مفاجآت الكعبة.. حجارتها من 5 جبال وامرأة شاركت ببنائها لأول مرة 

بداية طريق الحجاج
بعد هذه الرحلة الغريبة وتلك التفاصيل غير المتوقعة، عدت إلى مسجد محمد الأصغر مجددا، كانت تفاصيله قد تغيرت في عيني، وبت استشعر سر الغموض الكامن بين حجارته العتيقة، دلفت إلى الحجرة الضريحية، أخذت أتفحص كل شبر فيها علني أجد شيئا يؤكد صحة ما توصلت إليه، في غمرة بحثي، لمحني خادم المسجد وتذكرني، فجاء إلي مهرولا، سألني: هل جمعت سيرة سيدي محمد الأنور؟
نظرت له وعلى وجهي ابتسامة حائرة، وأنا أتخيل ما توصلت إليه مطبوعا في كراس والخادم يقوم بتوزيعه على مريدي المشهد دون أن يقرأه! بعد تفكير قلت له: لقد جمعت كل شيء عن محمد الأنور.. وسوف أطبعه وأحضره لك، ولكن هل تعتقد أن الناس ستصدق ما كتبته؟ فسألني: ولماذا لن يصدقوك؟ لا أعلم كيف جاوبته، فلقد انطلقت الكلمات مني دون وعي وبتلقائية لم أتعمدها، قلت له: لقد عرفت كل شيء عنه بعد رؤيا رؤيتها في المنام!
لمعت عيني الخادم وهو يحدق في، كان يحاول استيعاب ما أقول وما إذا كنت مازحا أم أتحدث بجدية، وفي غمرة اندهاشه، تركته وغادرت المسجد صامتا، وتركت خلفي ذلك الأثر الذي بت أعتقد أنه فريدا من نوعه لا مثيل له في الهدف الذي أنشئ من أجله في العالم أجمع، ثم سرت في "بقيع مصر"، تلك المنطقة التي ظلت لسنوات بداية طريق الحجاج والمعتمرين، المحبين والعاشقين، في رحلتهم الطويلة والشاقة، إلى الأراضي المقدسة، مكة والمدينة.