يوميات الأخبار

أين العربة وأين الحصان؟

د. مصطفى رجب
د. مصطفى رجب

غدا يوافق العيد الماسى للإصدار الأول لصحيفة «أخبار اليوم»، واليوم اتطرق الى تحقيق صحفى تناولته منذ ١٥ عاما  تأكيدا لدورها الريادى فى تبنى قضايا وهموم الوطن والمواطن.

 نشرت صحيفة أخبار اليوم فى صفحتها السابعة عشرة من عددها الصادر يوم 7 فبراير 2004 تحقيقاً مثيراً عن واقع الدراسات العُليا فى الجامعات المصرية، وقد حمل التحقيق عناوين صارخة، مثل:
13 ألف طالب دراسات عُليا فى كلية واحدة!.
هاربون من البطالة، أم باحثون عن الوجاهة؟!.
واستهدى الصحفيان اللذان أجريا التحقيق بآراء عدد من الخبراء والأكاديميين فى تخصصات شتّى؛ فكانت محصلة الآراء تدور حول إدانة هذا الوضع الشاذّ والمطالبة بضرورة إيجاد الحلول، إلا أن أحداً ممن استُعين بآرائهم حول القضية لم يقدّم حلاًّ عملـيًّا واحداً قابلاً للتطبيق، بل رفع الأكثرية اللافتة الباهتة التى كثيراً ما تُرفع أمام أية ظاهرة سلبية مكتوباً فيها: «أهمية إعادة النظر والمراجعة والتطوير»!!. وكفى الله المؤمنين بهذه اللافتة مؤونة التفكير والتركيز!!.
أردت بذكر هذه الواقعة أن أمهّد لحديثٍ من القلب أملته خبرة طويلة من العمل فى حقل التعليم الجامعى فى كليات التربية، وحديثى هذا قد يُفزع الكثيرين ممن يؤمنون بأنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان. ولكنه قد يروق الذين يتوقون إلى تطوير حقيقى للتعليم الجامعى فى حقل التربية.
وحتى يكون الحديث منطقياً؛ لابدّ من الانطلاق من بؤرة الأزمة، ومنشأ الصراع إن جاز التعبير.. فهل تعانى كليات التربية فعلاً من أزمة فى دراساتها العليا بحيث يجوز التفكير فى تطوير هذا القطاع -أعنى قطاع الدراسات العليا- من قطاعاتها؟. الواقع يشهد بأن تاريخ الدراسات العليا التربوية بدأ بداية صحيحة، وانتهى إلى شرّ ما ينتهى إليه مشروع عظيم !!.. فقد بدأت الدراسات العليا فى تربية عين شمس بدبلومات مهنية متخصصة تعدّ غير التربويين ممن حصلوا على دبلوم عامة فى التربية، كما تعدّ التربويين الراغبين ، لممارسة تخصص معين من تخصصات التربية كالإدارة المدرسية، أو العمل مع الأطفال، أو الإرشاد النفسى.. وغير ذلك مما كانت تدعُو إليه حاجة سوق العمل آنذاك. وكانت الدبلوم الخاصة ذات طبيعة امتيازية بين دبلومات التربية؛ فلا يقدم على الالتحاق بها إلا أُولُو العزم والقدرة من الفائقين الذين يودّون أن ينفذُوا منها إلى ما بعدها من عليا الدرجات كالماجستير والدكتوراه.
فلمّا أن توسّعت الأقاليم فى افتتاح كليات للتربية مع بداية السبعينيات من القرن العشرين، احتاجت إلى كوادر للتدريس فيها، فبدأت الدراسات العليا فيها بالدبلوم الخاصة سعياً لتخريج كوادر صالحة لتسدّ العجز فى أعضاء هيئة التدريس بتلك الكليات، ثم تلاها افتتاح الدبلومات العامة، فالمهنية.. بل لعل بعض الكليات -حتى وقتنا الحاضر- لا تَعْنَى كثيراً أو قليلاً بالدبلومات المهنية، وتنظر إليها نظرة المجتمع إلى معلم المرحلة الابتدائية. وقد أدّى التوسّع فى افتتاح الدراسات العليا بالدبلوم الخاصة على هذا النحو إلى شرٍّ مستطير يتضح فى المستوى المتدنى لأولئك الذين نالُوا درجتى الماجستير والدكتوراه وهم دون مستواهما بكثير، ثم عيّنُوا بعد ذلك فى وظائف هيئة التدريس فى الكليات التى افتتحت فيما بعد.. ومن ثمّ فقد أصبح لهم حقّ التدريس فى الدبلومات ذاتها!!.
ومن أشدّ ما يُؤْسفُ لـهُ: أن كثيراً من كليات التربية تسمح لصغار المدرسين بالتدريس فى الدبلوم الخاصة دون اعتداد بأهمية الخبرة، وقد يحدُث هذا تحت ضغط الحاجة فى بعض التخصصات، كما قد يحدث فى سياق المجاملات أو تصفية الخصومات بين ذوى المناصب بتلك الكليات. والأغلب الأعمّ أنه يحدث من باب الغفلة عن خطرهِ الدّاهِمِ.
>>>
فإذا انتقلنا من هذه النقطة التاريخية إلى الواقع المرير الذى دفع بجريدة «أخبار اليوم» إلى تخصيص تحقيقها الذى أشرنا إليه مطلع هذه الورقة، فإننا سنجد أن واقع الدراسات العليا التربوية يعانى من سلبيات كثيرة منها:
كثرة أعداد الملتحقين بها مع ضعف مُستواهم العلمى ولذلك أسباب معروفة.
التباين بين كليات التربية فى أساليب التقويم، فبعض الكليات يؤدى طلابها امتحاناً للدراسات العليا فى شهر مايو، ويجوز للطالب أن يتخلف فى مادة أو مادتين فيُمتحن فيهما فى أكتوبر. فيكون عام الدراسات العليا مساوياً للعام الدراسى الذى يقضيه طلاب الليسانس. فى حين نجد أكثرية الكليات تكون امتحانات الدراسات العليا بها فى سبتمبر أو أكتوبر من كل عام.
اختلاف الكليات فى النظر إلى نسبة الحضور التى يقتضيها دخُول الامتحان، فبعض الكليات تأخذ بها بجديّة، وبعض الكليات تُعرض عنها إعراضاً تاماً، وأكثر الكليات تتركها لأهـواء الأساتذة.. فمنهم من يتشدد فيها ومنهم من يتسامح.
وفيما يتعلق بالمُحتوى العلمى اختارت بعض الكليات أن تقترب قليلاً من مادة التخصص؛ فجعلت لها مكاناً فى اللوائح تحت اسم (مقرر فى التخصص) فقام أساتذة منتدبون من كليات العلوم والآداب وغيرهما بتحويل هذا المقرر إلى شيء عديم القيمة، ولم يفطنُوا للهدف المُبتغَى منه. وحين كانت إحدى الكليات تأخذ بهذا التوجّه فقد مُعيدٌ من معيديها وظيفته بعد أن تكرر رسوبه فى الدبلوم الخاصة، لأنه لم ينجح فى فهم جانب معين من جوانب شاعرية الشاعر العباسى أبى تمام!!. بعد أن جعل المدرس المنتدب لمقرر التخصص هذا الجانب هو كل ما يُــراد !!.
ثم نأتى إلى التنازع بين الأقسام أيهم يقوم بتدريس هذا المقرر أو ذاك، وبخاصة تلك المقررات العامة مثل: (مناهج البحث) أو (مصطلحات تربوية بلغة أجنبية) أو (القياس والتقويم):
فَـكُلٌّ يَـدَّعِى حُـبًّا لِلَيْـلَى          ولَيْــلَى لا تُقِـرُّ لَهُمْ بِذَاكَا
والشيء الوحيد الذى تتفق عليه جميع كليات التربية - بلا أدنى تنازع أو تباين- هو: إغفال تعليم قدر معين من اللغة العربية لجميع طلاب الدراسات العليا، باستثناء محاولة قامت بها تربية عين شمس ذات سنة من السنوات - فلا أدرى أنجحت فيما حاولت؟، أم تحول هذا الهدف إلى مقرر تقليدى يستكمل به من يدرسه توزيع مذكرات مخزونة عنده عن شاعرية أبى تمام؟.. إن حاجة طالب الماجستير والدكتوراه إلى اللغة العربية تفوق حاجته إلى اللغة الإنجليزية التى أصبح التفوق فيها محلّ اهتمام الجميع، دون أن يُعطى الجميع للغة العربية ما ينبغى لها من اهتمام ورعاية. ومن سلبيات الدراسات العليا التربوية بوجهٍ عام أن شروط القبول بها فضفاضة؛ فقانـون تنظيم الجامعات يحيل فيها -بعد ضوابط قليلة- إلى اللوائح الداخلية، واللوائح الداخلية تكلُ أكثر الأمور إلى مجالس الكليات، ومجالس الكليات تتفاوت مرونةً وشدةً من جامعة إلى جامعة؛ فبعض الكليات تقبل حملة الدبلوم العام فى السنة التكميلية من الدبلوم الخاصة، فيقضون فى الدبلوم الخاصة عامين، وكليات أخرى تقبلهم بالدبلوم مباشرة فيقضون عاماً واحداً يحصلون بعده على الدبلوم الخاصة.
>>>
فإذا تجاوزنا سلبيات الدبلومات، إلى مرحلة إعداد رسائل الماجستير والدكتوراه فسنجد عجباً؛ يتمثّل فى عدة أمور:
أولها: أن ضوابط القيد والتسجيل، قليلاً ما تخضع للنقد والتعديل، ويكفى هنا أن أشير إلى تقليد معمول به فى جامعة الأزهر، يتطلب من الراغب فى التسجيل أن يُحضر خطابات رسمية من جميع الكليات المناظرة للكلية التى يدرس فيها، سواء أكانت تلك الكليات المناظرة تابعة لجامعة الأزهر أم غير الأزهر، بأن موضوعه ليس- ولم يكن- مسجلاً. وهذا تقليد يمنع تكرار تسجيل الموضوعات.
وثانيها: أن جمود لوائح كليات التربية عند نقطة منح الدكتوراه بغير تقدير أساء إلى مستوى الخريجين كثيراً، فأصبحت الانتهازية سمة بعض الدارسين، فهم يعلمون أن الغثّ والسمين يستويان بعد المناقشة؛ فيوطّن الطالب نفسه على تحمّل مشقة المناقشة لساعات، وهو واثق بأنه سيظفر بالدرجة مهما تكن شدة المناقشة، وما أكثر الحالات التى أوشكت فيها لجنة المناقشة على ردّ الرسالة تماماً، ثم تدخلت الاعتبارات الإنسانية، ونال الباحثون درجاتهم بعد إجراء تعديلات أكثرها شكلية، ثم انتظم فى سلك الترقيات الطبيعى بعد ذلك.
وأذكر هنا مثالين للاستشهاد على ما آل إليه الحال، أما الأول: فظهر حين أحضر أحد المناقشين مرجعاً ألمانياً، وواجه الطالب الذى نقل فقرة منسوبة لهذا المرجع من أحد كتب المناقش، ثم وثّق المرجع الألمانى بعد أن ظنّه إنجليزياً، وكادت مُكابرة الطالب تُخرج المناقش عن طوره وبخاصة بعد أن أعلمَ الطالب أن هذا المرجع حصل عليه إهداءً من مؤلفه حين كان بألمانيا وليس متوفراً بالمكتبات. وهذا «اللص الظريف» يعمل الآن أستاذاً مساعداً «قد الدنيا»!!.
وأما الآخر فرجل أكثر ظرفا ، فقد حصل على الدكتوراه مبعوثاً، فلمّا عاد مكث صابراً بضع سنوات حتى فوجئ الذين معه فى القسم بأنه رقّى أستاذاً مساعداً، ولم يروْهُ طوال تلك السنوات ممسكاً قلماً إلا لضرورة، كالتوقيع على الكشوف وما أشبه الكشوف، ثم قضى من السنوات مثل ما قضى أو أقل ثم رقّى أستاذاً، فلما نُوقش فى ذلك تفاخر بأنه لم يخطّ خطاً، ولم يكتب سطراً، فإن لـه فى لجانِ الترقياتِ ظهراً ظهيراً؛ أجبر كثيرين على أن يضيفُوا اسمه باحثاً مشاركاً فيما قاموا به من بحوث !! والعجب العُجاب أن هذا الأستاذ صار بعد ذلك وكيلاً فعميداً لإحدى الكليات فى الدلتا.
ولو أننا تتبعنا أمثال هذين النموذجين، لضاق بنا الوقت، فلنكتف بهما، ولنحاول تقديم ما قد يكون فيه إصلاح لأحوال الدراسات العليا فى كليات التربية؛ عسى أن نجد له سميعاً مُجيباً:
أولاً: يجب على وزارة التربية والتعليم أن تضع من المعايير ما يجعل حصول المعلمين على الدبلومات التربوية العليا عملاً جديراً بالتشجيع المادى والمعنوى بصورة لائقة لا بالصورة الهزيلة الموجودة حالياً.
ثانياً: يجب على كليات التربية أن تُعيد النظر فى لوائحها بحيث يصبح لدرجة الدكتوراه فى التربية قيمة علمية عالية، وذلك بصور كثيرة منها: وجود تقديرات متفاوتة عند تقييم البحث، ومنها إتقان اللغتين العربية والإنجليزية.
ثالثاً: أن توضع ضوابط صارمة لقبول الطلاب بالدبلوم الخاصة بحيث لا تصبح الأعداد فيها عائقاً أمام التدريس السليم.
رابعاً: أن يُتوسّع فى الدبلومات المهنية بالتنسيق مع وزارة التربية والتعليم.
خامساً: أن تُوضع الضوابط التى تنظم حضور الطلاب أو غيابهم تنظيماً عملياً فعالاً.
سادساً: أن يُعاد النظر فى اللوائح لتصبح اللغة العربية -أو على الأقل: النحو الوظيفي- جزءاً من مقررات الدبلوم الخاصة فى كليات التربية.
سابعاً: أن تسعى الجمعيات والروابط التربوية إلى الجهات المختصة لاستصدار تشريع عاجل لاعتبار تقدير الدبلوم العامة بديلاً عن تقدير الدرجة الجامعية الأولى لأن الدارس يصبح بمقتضاه مساوياً لقرينه التربوي.
ثامناً: يجب التفكير فى إلغاء السنة التكميلية للدبلوم الخاصة حتى تتحقق العدالة بين خريج كليات التربية وخريج الكليات الأخرى عند استكمال الدراسة. إذ يجعل النظام الحالى خريج التربية مظلوماً بالمقارنة بخريج الآداب أو العلوم.