فى الفكر والسياسة

وهم لا يبصرون من العماء

د. محمد السعدنى
د. محمد السعدنى

كعادته، كان ميالاً للدعابة، لكنها دعابة فيها من السخرية أكثر مما فيها من المفارقة، وغالبا ما تأتى حكاياه ودعاباته بطعم المشمش، حلاوته فى مزازته وربما أيضا فى قصر موسم حصاده وأيام عمره. فى إحدى أمسيات الصيف انسابت كلماته تلف المكان وتعبقه بمسحة من الشجن والحزن الذى لم تفلح نسمة بحر الإسكندرية أن تخفف من وقعه وحرارته. كان يتكلم عن واحد من مقالاتى التى أؤكد فيها بأننا نحن الذين نصنع مستقبلنا، حيث خلط عامداً بين المستقبل والقدر فى دفقة من اليأس والإحباط أرادها أن تغادر صدره وترحل عن ثنايا عقله وأفكاره.. كان فنانا تشكيلياً مبدعا، لم يجد فنه طريقاً للرواج والعالمية مثل آخرين أقل منه فناً وإبداعاً، لكنهم يعرفون كيف يشقون طريقهم فى دهاليز السلطة، وينافقون من بيدهم أمور المعارض والتفرغ والسفر والمقتنيات. كانت ألوانه ساخنة دافئة وكانت ريشته باردة وخطوطه حادة وأفكاره قاطعة، وكانت لوحاته رغم ما تدفع إليه من غموض وترقب وتدفق وشجن تفيض بجمال غير معهود فى غيرها من لوحات الآخرين. تقف أمام اللوحة فلا تغادرها إلا بعد أن تأذن هىّ لك بالإنصراف، تشدك اللوحة إليها تتسرب داخلك فتختلط ألوانها وأصباغها وخطوطها ودلالاتها بكريات دمك فتضعف مقاومتك وتستسلم لإشراقات تولد فى داخلك، تحملك بعيدا عن المكان وعن الزمان. تشعر باللوحة فى حوار مباشر معك وكأنها رسمت لك أنت وحدك، فتشعر أن فى اللوحة شيئاً غامضاً يشدك إليها. كانت لوحاته دائماً ما تشعرك بالغنى رغم فقره البادى والذى حفر بصماته على تجاعيد وجهه وهو ابن الثلاثين فبدا كهلاً فى الخمسين أو يزيد، كان نحيلاً حاد القسمات عميق النظرة، وكان متدفقاً شلالاً من عطاء وإبداع لا ينقطع. كان إذا حضر إحدى محاضراتى العامة فى الجامعة أو الثقافة الجماهيرية أو غيرها من المحافل العامة، يدفعه فضول الفنان ونزقه إلى اختزال اللحظة فى لقطة، فى صورة، فى حركة، فى إيماءة، وإذا بالبورتريه مرة بالفحم وأخرى بالجواش وألوان الباستيل، يحكى لك انفعالات الناس واشتباك الأفكار والحوار والرؤى. كان فنانا فى شكله وعقله وحياته ومأساته وحزنه وتفرده، وكان ابن موت.
عرفته ذات مرة حين كانت أعماله ضمن عشرات أخرى فى معرض للفنون التشكيليه بمعهد جوته بالإسكندرية. كنت فى ذلك الوقت أدرس البيولوجيا والكيمياء الحيوية فى كلية العلوم، وكان يدفعنا الشغف للقراءة، ننهل منها كيفما اتفق، فى مكتبة البلدية، فى قصور الثقافة وبيوتها وأكشاك الجرايد. كنا كما القطط الصغيرة قبل فطامها تلقم أى ثدى يصادفها من أثداء قابلة للعطاء والحنو والرعاية. وكنا نعقد حلقات للنقاش وأمسيات الشعر والغناء. وقفت أمام لوحاته تملؤنى الدهشة واحتشد داخلى كل ما قرأته وعرفته عن الفنون التشكيلية وقواعد التذوق وقراءة اللوحة ودلالات الألوان والضوء والظل، واستحضرت مدارس الفن الحديث. كانت لوحاته تحمل جموح وتجديد وجنون وحداثية وكلاسيكية وانطباعية سلفادور دالى وفرانشيسكودى جويا وبول سيزان وفان جوخ، وجوجان، ودييجا ومانيه ورينوار وبابلو بيكاسو وإيتان رينيه. كأنه هضم كل هؤلاء وتمثلهم خطوطاً وألواناً وجنوناً وفناً وعبقرية. انضم بعدها لمجموعتنا.
فى إحدى الأمسيات اندمج الفنان فتوحد مع داخله ومعاناته واستدعت كلماته كل إحباطاته وطموحاته المجهضة فوقف ساخراً من كتاباتى المغرقة فى التفاؤل بلا سند أو مقتضى أو دليل وتساءل كيف يمكننا أن نصنع المستقبل ونحن الذين نكابد الحاضر ونعانى تداعيات الماضى ونفشل حتى فى التواءم والتأقلم مع الواقع، وكل ضراعتنا لله سبحانه «اللهم لا نسألك رد القضاء بل نسألك اللطف فيه» عارف يعنى إيه يا أستاذ يا مثقف؟ يعنى كل ما تطلبه من الله إنه بدل ما يضربك لورى ويدهسك تحت عجلاته الثقيلة يخفف ربنا قدره وتموتك عربيه 127 صغيرة. مستقبل إيه إللى عاوزنا نصنعه، إحنا لاقيين ناكل، هو حد شايفنا ولا حد حاسس بينا، وأغرورقت عيناه بالدموع بينما ضحكاته تجلجل، وشى كلماته بما يعانيه كل فنان وكل الموهوبين والنابهين. نظرت إليه وكأنى أمام الحسين بن منصور الحلاج ينشدنا: وأى الأرض تخلو منك حتى/ تعالوا يطلبونك فى السماء/ تراهم ينظرون إليك جهراً / وهم لا يبصرون من العماء.