بأقلام الأشقاء

من العولمة إلى الأوتوقراطية الرقمية!

طلال أبو غزالة
طلال أبو غزالة

العولمة كما اصطلح على تسميتها كانت مرحلة قصيرة ومصطنعة، وها هى الآن تموت موتاً سريرياً. لقد اتسمت فى الماضى وحتى يومنا هذا، بقدر من «ديمقراطية» الفكر فى مجالات الحوكمة والإدارة والصناعة وفى الوقت نفسه بعدم الكفاءة وتراجع القدرة على تحليل المعلومات وبالتالى اتخاذ القرارات، ما أدى إلى تبنى سياسات خاطئة ومضللة فى الغالب. والآن، تقوم التكنولوجيا الحديثة لا سيما الذكاء الاصطناعى وتعلم الآلة، على المعالجة المركزية لهذه المعلومات، وسيطرت على مقوماتها، وألغت اللامركزية التى سادت فى الماضى بين عدد كبير من المؤسسات والحكومات. إن أحد أهم مزايا الذكاء الاصطناعى هو ترسيخ هذه المعالجة المركزية للمعلومات ليبدأ عصر إشراك المستخدم والمواطن فى صياغة السياسات والإجراءات والقوانين.
ماذا يعنى هذا التحول وبخاصة فى منطقتنا العربية حيث ننتقل من مرحلة العلاقات الدولية إلى الشراكات الدولية؟ لقد استغرقت أوروبا للوصول إلى عصر النهضة 20 سنة، لكنه فى عصر المعلومات الجديد ستأخذ منطقتنا وقتاً أقل بكثير للنهوض وذلك لسببين: أولاً، لم يعد هذا التقدم الرقمى العالمى يسير سيراً بل يتدفق تدفقاً، وما كان يُقاس بالشهور يُقاس الآن بالساعات، وثانياً: تقدم التكنولوجيا وانتشارها بشكل متسارع. لكن العالم اليوم يواجه أوتوقراطية تكنولوجيا المعلومات الأكثر كفاءة وإنتاجية. ديمقراطية عصر العولمة كانت بالأمس الآلية المثلى لتصفية خيارات البشر فى مجتمع معيّن وتحويل قرارات الأغلبية إلى سياسات للدولة تحت سقف القانون وفى ضوء معيار حماية حقوق الأقلية. أما اليوم، فتنهض آلية الرقابة العميقة والمركّزة لإنتاج هذه السياسات والقوانين بدل التعثر بالمشكلات والآليات التى صاحبت الممارسات القديمة.
لكنه، مع النمو الهائل فى المؤشرات الرأسمالية المختلفة التى تحدثها الثورة الرقمية، نجد أغلبية الشعوب تزداد فقراً بمعنى أن هناك مشكلة جدّية علينا مواجهتها، والبحث عن طرق أجدى للربح والثروة بدل القيام بحروب عبثية جديدة ستزيد من كلفة الإصلاح الحقيقى. لقد طالبتُ من على منبر الأمم المتحدة أن يتم التركيز على الآثار الاجتماعية، لأن الاقتصاد وُجد أصلاً لخدمة المجتمع وبناء الحضارة لا الغرق فى مستنقع رأس المال ونهب العالم من قبل قلة من المتنفذين الأقوياء الذين يمتلكون زمام التكنولوجيا الرقمية ويوجهونها للسيطرة على مستخدميها الضعفاء.
نحن اليوم نتعايش داخل مجتمعات منضبطة بالرقابة التى يوجهها هؤلاء المتنفذون. من البيت إلى المدرسة إلى العمل إلى المستشفى، مجتمعات شديدة الانضباط تحت أعين رقابة مستدامة يعمل فيها الناس ويتصرفون داخل برامج مصممة سلفاً يتم تداولها فى ظل «رقابة عن بعد». هذه هى الأوتوقراطية الرقمية الجديدة التى تحل تدريجياً محل ديمقراطية الفكر والتصرف. وهى التى تنزع الأصالة عن السلوكيات الفردية، وتؤسس علاقة مترجرجة ومختلة لكنها قوية ومدرِكة بين الحاكم (المراقِب) والمحكوم (المراقَب)، ما يؤدى لانزلاق هذا الأخير، دون أن يدرى، فى نمطيات عيش وتفكير مبرمجة ومتوقعة، بقطع النظر عن ميوله ورغباته..
إن ما يقوم به القطاع الخاص فى منطقتنا، بتشجيع الحكومات لإقامة مشاريع عملاقة، غير منطقى أبدا. بل يجب الاعتماد على المؤسسات والمشاريع الصغيرة خاصة فى مجال تقنية المعلومات، لأنها الأكثر قدرة على خدمة شرائح واسعة من المواطنين. نعم، علينا أن نتحول إلى مجتمع ينتج المعرفة، نحن مسئولون عن توجيه أحفادنا للتفكير الصحيح وتعميم ثقافة الاستثمار فى الإبداع وإتاحة بيئة مناسبة لذلك. فالديمقراطية الكونية التقنية تساوى بين البشر واقتصاد المعرفة يسهم فى صنع الديمقراطية عالمياً.
فى هذا العالم الجديد تبدأ مرحلة «الانضباط الفكرى» حيث ينضوى الفكر البشرى تحت رقابة مستمرة تتسلل إليه تدريجياً لتصبح منه العقل المواكب لعقله. وهى أشبه ببرج المراقبة المتموضع والمضاء بعناية بالغة فى كافة مضامير وجودنا سواء كانت مدرسة أو مكتباً أو مستشفى أو سجناً. إن مستخدِم هذه التكنولوجيا، شديد التوحّد فى سلوكه أو استعمالاته لجهازه المحمول. والسؤال هو: هل ستستخدمنا هذه التكنولوجيا أم سنستخدمها نحن؟ من المفترض أن تستخدمنا التكنولوجيا للتعلم وتطوير أدائها وقدرتها على اتخاذ القرار نيابة عنا لنقوم نحن بعد ذلك باستخدامها لتسهيل وتسريع إنجاز المهام بشكل أكثر فاعلية.
ففيما تنحسر العولمة، تبرز دول وشعوب وثقافات وتحالفات إقليمية وعالمية متجددة تنحو لاتجاهات متباينة، مما يجعل من الاتحاد الأوروبى مثلا اتحاداً «مشكوكاً فيه» (uncertain union) كما يقول الأمريكيون حيث تركز توجهاته على الحمائية الفردية، وفى هذا عودة إلى الماضى تحكمها علاقات دولية، حيث ولم تعد فكرة تحرير التجارة فى قاموس العالم.
وبالنسبة لنا، سيأتى التغيير فى موازين القوى عالمياً ليخدم القضية الفلسطينية التى تشكل ربما العصب الأساسى للسياسات المحلية والعالمية فى المنطقة، وعلى المدى المتوسط سوف تقتنع أمريكا أن مصلحتها ليست بالضرورة مرتبطة بإسرائيل.
أدخلت مراقبة واستثمار البيانات «DATA» تغييرات جذرية على الاقتصاد الرأسمالى حيث استُجدّت وسائل وآليات غير مسبوقة سوف تتنامى مفاعيلها بين الشركات الكبرى والمستهلكين، وتراجعت رقابة الدولة على المواطنين أمام رقابة المؤسسات الرقمية على المستهلكين. ونحن نعيش مرحلة التدرج الطويل للرأسمالية وتنوعها بين صنع المنتجات إلى الإنتاج الضخم والرأسماليات الإدارية والخدماتية والمالية، والرقابية.