30% حجم إهدار مياه الشرب.. و٤٥٠ ألف متر مكعب سنويا ضائعة في القطاع الصناعي

«نقطة مياه = حياة»| «مغسلة السيارات» خراطيم إسراف لا تتوقف.. ورش الشوارع كارثة

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

كما يقول الله فى كتابه العزيز «وجعلنا من الماء كل شىء حى» ومعها المقولة القديمة التى نعرفها جيدا «نقطة مياه تساوى حياه بأكملها»، فالحفاظ على النقطة الواحدة يعادل الحفاظ على حياة البشرية بأكملها.

 

ففى الوقت الذى تسعى فيه جميع دول العالم إلى ترشيد استهلاك المياه والبحث عن سبل منع إهدارها واالبحث عن موارد جديدة للمياه كمحطات التحلية المنتشرة فى كل العالم تستمر لدينا ثقافة إهدار المياه، لأن الكثيرين يجهلون مدى خطورة عدم ترشيد المياه واستهلاكها بشكل عقلانى.

 

«الأخبار» قامت بجولة ميدانية موسعة فى شوارع القاهرة لرصد المأساة التى تاهت بين طياتها الحلول وكانت الكارثة أن الكل يسرف فى استخدام المياه بدءا من محطات البنزين ومغسلة السيارات، وصولا إلى حراس العقارات الذين يستخدمون الخراطيم فى غسيل السيارات بإسراف شديد ودون أى حساب.. فمشاهد الإسراف كثيرة ومتنوعة وهذا الأمر يحتاج منا إلى وعى للحفاظ على نقطة المياه التى تساوى حياة.. وقد أظهرت بعض الخطط الخاصة بالشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحى والتى تستهدف تقليل الفاقد من المياه من 30٪ إلى 20٪ بكمية مياه تصل إلى 2.89 مليون متر فى اليوم وبالفعل تم عزل 105 مناطق فى 16 محافظة وتوفير حوالى 12 ألف متر.

 

هنا فى الشوارع والميادين التى تعج بالسيارات بالعاصمة على كل رصيف أو حتى داخل حارة صغرى كانت أو حتى زقاق تجد محلا كبيرا عُلقت لافتة عريضة كتب عليها «مغسلة سيارات» تصطف أمامه عشرات السيارات الراغبة فى تنظيف مركباتها يفتح صاحب المغسلة أبواب محله منذ الصباح الباكر وظهور خيوط النهار ويتجه بشكل تلقائى ناحية الخراطيم الموضوعة فى كافة أنحاء المحل ويبدأ مباشرة فى فتح جميع «الحنفيات» لتخرج المياه مندفعة متدفقة كالسهام الخارقة ناحية السيارات لا يعنيه ـ صاحب المغسلة ـ هل هو يسرف فى استخدام المياه أو لا، إنما كل ما يريده هو الربح السريع والوفير الذى يدره جراء الإسراف فى استخدام المياه وربما ينتهى فى يومه من غسيل السيارات ويترك الخراطيم مفتوحة على مصراعيها فتتساقط قطرات المياه لتغرق الأرض وربما تخرج إلى أسفل الشوارع المجاورة وتغرقها هى الأخرى، مما قد يتسبب فى انزلاق البعض على الأرض وكأنهم يلعبون تلك اللعبة المعروفة باسم «التزحلق على المياه».

 

وفى منطقة أخرى قد تجد أن «مغسلة السيارات» يجلس صاحبها أمام أبوابها ويمسك بيده اليمنى حجر الشيشة الفاخر ويعمل عنده عدد كبير من الصنايعية كل منهم له خرطومه الخاص الذى يطلق منه المياه دون توقف وكأنهم دخلوا فى سباق محتدم مَن سيهدر الماء أكثر من الآخر أو أنهم يتقاضون رواتبهم و»البقشيش» على تلك المهمة.

 

التقت «الأخبار» مع عدد من الذين يقطنون إلى جوار «مغسلة السيارات» فيقول إيهاب منير أنه تقريبا بشكل شبه يومى يستعد وهو يخرج من بيته لأن يقفز مسافات كبيرة حتى لا يتعرض لبطش الماء المنتشر على الأرض متسائلا يرضى مَن ذلك الماء الذى يهدر بشكل يومى دون أن يستفيد منه أحد؟ ومَن يستطيع أن يعاقب هؤلاء الذين لا يعنيهم الكم الهائل من المياه المهدرة.


حراس العقارات
«حراس العقارات».. تلك هى كلمة السر التى يقف خلفها المئات بل والآلاف من تلك الفئة الذين يستيقظون منذ الصباح الباكر ليقوموا بغسل السيارت لسكان العمارات والأبراج التى يقومون بحراستها ومعهم أيضا عدد كبير من سكان المنطقة والذين يقومون بركن سياراتهم فى الشوارع المحيطة والنتيجة كارثة على الطريق فكل الأرض تقريبا اختفت أسفل برك من المياه فعلها هؤلاء دون إدراك منهم أن نقطة واحدة أهدروها كفيلة لأن تنقذ أمة كاملة أوشكت على الدمار.. مياه ملقاة وجهل تمسك بصاحبه والنتيجة كارثة لم يحمد عقباها، فمنذ أن يبدأوا عملهم يرتدون الجلباب المميز ليستعدوا لهذه المهمة الشاقة فى إهدار المياه ويملأون بعض الجراكن لتساعدهم أيضا فى مهمتهم التى تسبب الكثير من المتاعب لسكان الأحياء ويقول دكتور معتز شريف إن تلك المياه المتسربة على الأرض تسبب لنا الكثير من المتاعب أثناء سيرنا فى شارعنا أو المحيطة بنا كما أن حراس العقارات يقومون بهذا العمل بشكل يومى والنتيجة إهدار المياه بشكل مبالغ فيه ولا توجد قوانين تواجه هذه المشكلة وحتى وإن وجدت لا تطبق على أحد منهم وتبقى المشكلة كما هى قائمة دون رادع يقضى عليها.


استفتاح بالمياه
مع تعدد صور إهدار المياه على مستوى المناطق، ولكن تبقى الصورة الأشهر والأكثر انتشارا هى المقاهى وطرق استخدامها للمياه، فبمجرد أن يفتح المقهى أبوابه تجد «القهوجى» أو أحد عمال المكان يقوم برش كميات كبيرة من المياه على الأرض لتصبح المنطقة المحيطة بالمقهى أشبه بالبركة أو المحيط فى صورة غير مبررة للإهمال والإهدار، فالبعض يعتقد أنها ثقافة واعتقاد أنه «استفتاح لليوم» وطريقة لجلب الرزق فى مكان أكل العيش والبعض الآخر يعتقد أنها إحدى وسائل التنظيف أمام المكان أو من أجل التهوية فى الأيام شديدة الحرارة.


فتعددت الأسباب وصور الإهمال واحدة ولا يعد ذلك هو الصورة الوحيدة لإهدار المياه داخل المقاهى، بل يمتد الأمر إلى طرق تنظيف المقهى نفسه بالكميات الكبيرة من المياه التى يتم هدرها دون حساب وطرق تنظيف الادوات المستخدمة فيها أيضا، ولا يقتصر الأمر على المقاهى فقط بل يمتد إلى أصحاب المحلات أيضا الذين بمجرد أن يفتحوا أبواب المحال تصبح الخطوة التالية هى رش المياه أمام أبواب المحل.


فيقول جمال غريب مواطن رغم أن أزمة المياه أصبحت عالمية وأغلب دول العالم تعانى منها للعديد من العوامل على رأسها الزيادة السكانية إلا أن البعض لايزال مصرا على إهداراالمياه بطرق غير منطقية وغير مبررة، فبداية من المنازل هناك بعض أصحابها يترك الصنوبر مفتوحا «عمال على بطال» وصولا إلى الشوارع وأصحاب المحالات والمقاهى الذين يبرعون فى إهدار المياه دون رادع او رقيب، مشيرا إلى أنه من الضرورى تفعيل قانون العقوبات الخاص باهدار المياه وتنفيذه على أرض الواقع فى أسرع وقت حتى يتعظ باقى المخالفين مما يفعلونه فى المياه.


الرش «بالخرطوم»
«معلش بنرش مايه»..عبارة اعتاد المصريون سماعها من بعضهم البعض، ولكن الأمر الأكثر دهشة أنه قليلا ما تجد من يعترض على مثل هذا السلوك الذى اعتاد عليه البعض لمجرد أنه عادة، فأمام كل محل.. مطعم.. محل كاوتش وغيرهم من المحلات الأخرى التى اعتاد أصحابها أن يكون خرطوم المياه جزء لا يتجزأ من أساسيات المحل، فكثيرا ما تجد صاحب محل وهو ممسك بالخرطوم ويقوم برش المياه أمامه ليقوم باغراق الشارع يمينا ويسارا، مما يتسبب فى إيذاء المترجل وهو يسلك طريقه وأحيانا يناله نصيب من المياه، بالإضافة إلى المشهد غير الحضارى الذى يتسبب به هذا السلوك إلقاء كميات مياه هائلة على الأرض.


فتقول فاتن صالح موظفة: لا يدرك من يقومون بهذا السلوك الفظيع مدى ضرر ذلك علينا كمواطنين وعلى الأجيال القادمة فى المستقبل، فأصحاب المحلات لا يقدرون قيمة نقطة المياه فى هذا الوقت ويقومون بإلقائها بمنتهى الاستهانة وإهدارها، مشيرة نحن لا نطالب بالحفاظ على المياه من أجلنا فقط، ولكن من أجل أبنائنا وأحفادنا الذين نخشى عليهم أن يعانوا من أى أزمات أولا وثانيا حتى يدركوا قيمة أى مورد من موراد الطبيعة ومعرفة كيفية الحفاظ عليها.


الاستهلاك المنزلى
العديد من حملات التوعية التى تطلق من حين إلى آخر فى جميع وسائل الإعلام والتى تهدف إلى الحفاظ على المياه وطرق ترشيدها بحاجة إلى تكرارها من حين إلى آخر، خاصة وأن النصيب الأكبر لإهدار المياه هو الاستخدام المنزلى بأشكاله المختلفة، فما بين صنابير مفتوحة وغياب ثقافة الترشيد فى استخدامها يظل المواطن بحاجة إلى تكثيف حملات التوعية للتأكيد على طرق الترشيد فى الاستخدام والحفاظ على أكبر قدر من المياه فى المنازل.


فيقول سعيد كمال موظف: البعض يعتقد أن حملات التوعية لا تؤتى ثمارها وذلك خطأ شائع، فإذاعتها من حين إلى آخر يساهم بشكل واضح فى تذكير المواطنين بطرق الترشيد وبضرورة الحفاظ على المياه، بالإضافة إلى تعريف الأجيال الجديدة بأهمية نقطة المياه الواحدة وضرورة الحفاظ عليها.


وتؤكد سمية فتحى ربة منزل أتمنى أن تتواجد حلول عملية لمنع كافة صور الإهدار للمياه، سواء بتنفيذ القانون وتوقيع الغرامة والعقوبة على المخالفين، أو من خلال تطبيق حلول عملية من خلال تركيب عدادات ذكية للمياه فى المنازل والمحلات التجارية وقد تم تطبيقها بالفعل فى بعض المناطق ولكن أتنمى تعميم هذه التجربة من أجل الترشيد.


تفعيل القانون
ويؤكد د. نادر نور الدين أستاذ الموارد المائية بجامعة القاهرة إن أزمة إهدار المياه موجودة على مستوى، والجدير بالذكر أن التربة لدينا فى مصر تربة طينية وليست رملية، الأمر الذى يتسبب فى وجود الأتربة والغبار ومن أجل التغلب على ذلك يقوم أغلب أصحاب المحلات والمقاهى برش المياه بهدف ترطيب الجو، خاصة فى فصل الصيف وهذه إحدى صور الإهدار التى نراها يوميا عشرات المرات.. مضيفا أنه من الضرورى تفعيل القانون الخاص بإهدار المياه وتطبيق الغرامات على المخالفين لذلك.


ويقول د. نادر نور الدين إن لدينا فى مصر ثلاثة قطاعات بها نسب كبيرة من الإهدار أولها القطاع المنزلى وحسب إحصائيات الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء أن نسب الفقد فى المياه فى الاستخدام المنزلى تصل إلى نسبة 30% وذلك رقم كبير يهدر نسبة كبيرة من المياه الصالحة المعقمة والمعالجة بالكلور للتحول إلى مياه صرف صحى غير قابلة للاستخدام، مشيرا إلى أن نسبة الفقد فى الاستخدام المنزلى تعادل مساحة 750 ألف فدان قابلة للرى أى ما يمثل من مساحة زراعية كبيرة، مضيفا أن كل دول العالم أصبحت تلجأ إلى استخدام الصنابير التى تعمل بالدوائر الكهرومغناطيسية الحساسة باليد وهو مطبق فى كثير من الدول العربية، وهو سيساهم فى توفير نسبة كبيرة من المياه، خاصة فى المستشفيات والمدارس والجهات التى بها نسب إهدار كبيرة.


ويضيف أن القطاع الثانى والذى يمثله القطاع الزراعى هو أكبر القطاعات فقدا وإهدارا للمياه لأن اتباع الطرق القديمة فى الرى القديمة تهدر من 10% إلى 15% من المياه.. كما أن فقدان ما يقرب من 19 مليار متر مكعب فى الرزراعة بسبب طرق النقل القديمة وشكبات الصرف المتهالكة بدءا من أسوان وصولا إلى الدلتا.


ويؤكد د. نادر نور الدين أنه يجب إعادة النظر إلى منظومة الإهدار بالشكل الصحيح فلقد بدأنا فى إعادة استخدام مياه الصرف فى الزاعة، ولكن يجب أن يتم بالشكل الصحيح لأنه أحيانا يتم بدون معالجة أو تنقية لتصل الشوائب والرواسب إلى الحاصلات الزراعية وتؤثر على صحة الإنسان.


ويؤكد نادر نور الدين أن القطاع الثالث هو القطاع الصناعى وهو الأقل إهدارًا للمياه وتصل نسب الفقد فيه إلى 450 ألف متر مكعب وصور إهداره تتمثل فى المعالجة والتبخير فى المصانع إلا أنه من خلال وحدات صغيرة لن يتعدى ثمنها مليون جنيه يتم تركيبها فى المصانع سيتم إعادة تدوير هذه المياه والاستفادة منها، فالمورد المائى مورد ثمين لا يقدر بثمن ويجب الحفاظ عليه لأنه غير قابل للتعويض.