إنها مصر

محاكمات الشوارع!

كرم جبر
كرم جبر

إزالة آثار الفوضى أصعب من الفوضى نفسها، وما زلنا نعانى من «محاكمات الشوارع»، بأن يقوم من يظن أنه صاحب حق، بتحقيق عدالته «بذراعه» وفقاً لمعاييره وقوته.
حدث ذلك فى قرية تلبانة بالمنصورة، عندما قامت سيدة بقتل شاب، بربطه من يديه وقدميه وغلق فمه بالبلاستر، وضربه وكيه بالنار حتى الموت ليعترف بسرقته خاتم، ثم إلقاء جثته فى مصرف.
التعذيب موثق بموبايل السيدة القاتلة، وبعد بثه قام أهالى القرية بحرق منزلها، وأنقذتها الشرطة من الفتك، وكل يوم تقريباً نقرأ ونسمع عن حادث بنفس المواصفات.
مواقع التواصل الاجتماعى أصبحت الآن أسرع من وكالات الأنباء - التى عفّى عليها الزمن - وتغطية الأحداث وتشكيل الرأى العام، فى أجواء ضبابية يصعب استبيان الحقائق فيها.
من آثار الفوضى الميل لإطلاق الأحكام وتأكيدها، دون أدلة أو براهين على الاتهامات، «فلان ده حرامي»، أيوه، ولا يسأل أحد عن صحة أو كذب الادعاء وإنما الاستطراد فى ابتكار مزيد من الاتهامات والتعليقات والنتائج، وقد تكون كلها مبنية على وشايات ظالمة.
أصبحت الحقائق محاصرة بالأكاذيب، والأكاذيب تبحث عن الحقائق، والأخطر هو الانتقام الشخصى العشوائي، مثل تلك السيدة التى قتلت وعذبت شاباً، لمجرد الشك فى أنه سرق خاتماً.
قد يقول قائل إن أهل تلبانة عندهم حق بحرق منزل السيدة القاتلة، لأن العدالة البطيئة لا تشفى غليلاً ولا تحقق قصاصاً، شرطة ونيابة ومحاكم ومحامون وإخلاء سبيل وكفالة، ثم يصدر الحكم بعد سنوات، فينعدم مفعول الردع العام، الذى يشعر الناس بسطوة القانون.
ولكن العدالة السريعة - أيضاً - لها مخاطرها، وقد ينجم عنها ظلم أبرياء، وهناك قاعدة - لا أتفق معها - تقول «أن يفلت من العدالة مئة متهم خير من أن يدان برىء واحد»، والغرب الذى نستمد منه ثقافتنا القانونية يسرف فى وضع ضمانات للمحاكمة، وفقاً للمعايير الدولية، تصل إلى حد البطء المروع.
الجديد فى الأمر أن وسائل التواصل الاجتماعي، تسلط الأضواء على جرائم كانت تحدث من قبل، دون كشفها بالصوت والصورة، وساعدت سرعة الانتشار على سرعة ردود الأفعال، وزيادة الشحن والغضب.
الحل هو العدالة الناجزة، وليس المقصود بها المتعجلة بل السريعة والمدققة، بضوابط قانونية مشددة، ودون إبطاء أو إطالة الإجراءات، أو الوقوع فى براثن الدفوع الشكلية لإطالة أمد المحاكمة.
والحل طويل الأمد هو ترسيخ ثقافة احترام القانون، وإلغاء الواسطة والمحسوبية، وموروثات «انت عارف أنا مين؟»، وغيرها من الإجراءات التى قُتلت مللاً، دون تفعيلها على أرض الواقع.
وأهم من القانون هو من يقومون بتنفيذ القانون، بعدالته وروحه ونصه وإنسانيته، وليس بالبحث عن الثغرات واستعراض القوة والعضلات، وإساءة استخدام السلطة بوسائل قانونية.
العدالة ثقافة وجوهرها إيمان المخطئ أنه أخطأ ويستحق العقاب، وليس الإفلات والتحايل.