يوميات الأخبار

الحصان هو السبب

محمد السيد عيد
محمد السيد عيد

لم يستطع فى بدايته أن ينشر ديوانه الأول إلا بعد أن دخلت زوجته جمعية، وأعطتها له ليدفع تكاليف الطباعة.

المكرونة مظلومة. المكرونة ليست السبب المباشر لإعطاء سعيد باشا امتياز حفر القناة لـ «دى ليسبس»، بل الحصان هو السبب. وفى كل الأحوال فنحن أمام نموذج للأسباب التافهة التى يمكنها أن تؤثر فى مصير أمة بحجم مصر. أقول هذا بمناسبة مرور مائة وخمسة وستين عاماً على منح امتياز القناة، وها هى القصة كاملة لكى نعرف الحقيقة.
ولد الأمير محمد سعيد عام 1822، ولاحظ والده، محمد على باشا، أن ولده لديه استعداد كبير للبدانة، فأصدر قراراً بمنع طهو المكرونة فى القصر للحفاظ على رشاقة ولده. وحين صار سعيد فى سن تسمح له بالالتحاق بالمدارس العسكرية ألحقه والده بالمدرسة البحرية فى الإسكندرية، لكنه لاحظ أن التدريبات العسكرية لا تكفى ليكون ولده رشيقاً، فقرر إحضار مشرف رياضى يتولى مسئولية تدريب ولده على تمرينات قوية تضمن له الرشاقة، ووقع اختياره على صديقه القديم ماتيو دى ليسبس، والد فردينان دى ليسبس صاحب امتياز حفر القناة فيما بعد، وبدأ ماتيو عمله. وخلال تردد سعيد على مدربه التقى بولده فردينان دى ليسبس.
كان فردينان أكبر من سعيد بسبعة عشر عاماً، فقد ولد عام 1805، ومن المؤكد أن فردينان كان ذكياً، ويعرف أن كل ممنوع مرغوب، وبما أن محمد على باشا منع ولده من المكرونة فلا بأس من تقديم أفخر أنواع المكرونة الإيطالية سراً، مع البهارات المميزة، ليشبع رغبات الأمير، ويكسب رضاه.
المهم أن المكرونة كان قد مر عليها زمن طويل جدا حين حصل فردينان على امتياز حفر القناة، وأنها لم تكن صاحبة الدور الرئيسى فى الحصول عليه. أما قصة الحصول عليه فهى كالتالي: كان فردينان يسعى للحصول على امتياز حفر القناة من عباس باشا، الحاكم السابق على سعيد، لكن عباس لم يسمح بالحفر، ولم يعطه الامتياز، أما بعد مقتل عباس فقد صعد الأمير سعيد، صديق دى ليسبس القديم، للعرش، فأرسل يخبره بأنه قادم لزيارته. وفى يوم الوصول أرسل له سعيد نائباً عنه لاستقباله فى ميناء الإسكندرية.
كان سعيد فى هذا الوقت مشغولاً بمناورة عسكرية ضخمة، تضم عشرة آلاف جندى، ولحق به فردينان، وتوجها معا بصحبة القوات إلى القاهرة، عن طريق الصحراء الغربية. أثناء العودة أهدى سعيد صديقه القديم حصاناً شامياً جميلاً، ولأن فردينان كان فارساً ماهراً، فقد تولى تدريب جواده، ولما توقف الجيش للاستراحة، وجد دى ليسبس أن الفرصة متاحة لتقديم بعض مهاراته فى الفروسية أمام سعيد وقادته، وقام ببعض القفزات على الحواجز، فانبهر سعيد وقادته بفروسيته. وفى غمرة هذا الإعجاب قدم فردينان إلى والى مصر مشروع حفر قناة السويس، ورغم أن سعيد كان يعرف أن والده رفض هذا المشروع من قبل إلا أنه لم يرفض مثلما فعل والده، وكل ما طلبه من دى ليسبس أن يمنحه الفرصة لعرض الأمر على قادته.
من المؤكد أن هؤلاء القادة لم يكن فيهم من يستطيع الحكم على مشروع استراتيجى كهذا، ولأنهم تربوا على السمع والطاعة فقد رأوا أن أصدقاء سيدهم لا يمكن أن يقدموا مشروعات غير جيدة، لذلك وافقوا على المشروع فى اللحظة نفسها، وكتب دى ليسبس عن هؤلاء القادة فى مذكراته يقول:
«جمع سعيد باشا قواد جنده، وشاورهم فى الأمر، ولما كانوا على استعداد لتقدير من يجيد ركوب الخيل ويقفز بجواده على الحواجز والخنادق أكثر من تقديرهم للرجل العالم المثقف، فقد انحازوا إلى جانبى لما عرض عليهم الباشا تقريرى عن المشروع، وبادروا إلى القول بأنه لا يصح أن يرفض طلب صديقه، وكانت النتيجة أن منحنى الباشا ذلك الامتياز العظيم».
وقال عنهم أيضاً:
«هم أقدر على إبداء الرأى فى مناورات الخيل منهم فى التكلم عن مشروع عظيم لا يستطيعون فهم مراميه».
وهكذا وافق سعيد وقادته على المشروع بسبب الحصان، والقفزات فوق الحواجز، وليس بسبب المكرونة.
- الامتياز
كان هذا الامتياز خطوة أولى لتحقيق أطماع دى ليسبس، بعده تشكلت لجنة دولية لدراسة المشروع، وكلف سعيد صديقه فردينان بإنشاء شركة دولية للقناة، يكون هو رئيسها، وسانده فى مواجهة الهجوم الإنجليزى عليه، وفى مواجهة الباب العالي، ثم منحه امتيازاً ثانياً، وهو امتياز يدل على استهتار سعيد، وعلى أن الحكم الفردى لا يأتى إلا بالخراب للبلاد، فقد أعطى للشركة جميع الأراضى المطلوبه للقناة مجاناً، وكذلك الأراضى المطلوبة لشق ترعة الاسماعيلية. كما أعطاها كيلومترين على كل جانب من جوانب القناة والترعة مجاناً. ومنحها حق أن تبيع المياه للفلاحين الذين يروون أرضهم بمياه الترعة. كما أعطاها الحق فى استخدام المناجم والمحاجر اللازمة لأعمال المبانى والصيانة مجاناً، واستيراد المعدات والالات اللازمة للعمل دون دفع رسوم جمركية أو عوائد. واشترت الحكومة المصرية تقريباً نصف الأسهم المطروحة، بحيث يمكن القول إن ما دفعته مصر، بالإضافة لما قدمته مجاناً يجعلنا نقول إن الشركة حصلت على القناة مجاناً.
مكافآت الكتاب
حين كان شاعرنا الكبير صلاح عبد الصبور رئيساً لهيئة الكتاب زرته ذات يوم لأطلب منه الموافقة على نقلى إليها. حين دخلت مكتب السكرتارية وجدت كاتباً من أصدقائى يجلس فى انتظار الدخول إليه وقد بدا عليه التوتر. سألته: ما لك؟ قال إن زوجته تلد وليس معه ما ينفقه على الولادة، لذلك جاء لمقابلة صلاح عبد الصبور. قلت له: وماذا يستطيع الرجل أن يفعل لك؟ قال: إن لى كتاباً فى الهيئة وافقوا على نشره، وسأطلب من صلاح أن يعطينى المكافأة قبل النشر لأدفع تكاليف الولادة. ودخل فعلاً للشاعر الكبير، ووافق الرجل النبيل على الصرف رغم عدم النشر، حتى يستطيع الكاتب أن يدبر تكاليف الولادة.
هذا الحادث أعتبره نموذجاً لحال الكتاب الذين يكافحون فى الحياة لكى يستطيعوا أن يواصلوا مسيرتهم الإبداعية. وربما لا يتخيل أحد أن بعض الكتاب ينامون دون عشاء، ويقترضون ولا يردون ما اقترضوه لأنهم لا يجدون ما يسددون به ديونهم. والحكايات كثيرة فى هذا الصدد. والغريب أن الأفلام والمسلسلات والمسرحيات -عادة- تصور الكتَّاب باعتبارهم من علية القوم، يسكنون المساكن الفاخرة، ويركبون السيارات الفارهة، ويعيشون معيشة رغدة ميسورة، وأذكر مثلاً أن مسرحية حواء الساعة 12 كانت تصور الكاتب وهو يسكن فى فيلا، ويجرى وراءه الناشر لكى يكمل روايته، وهذا فى الحقيقة نوع من الخيال.
إن بعض الكتاب بدلاً من أن يتقاضوا مكافآت على كتبهم يدفعون من جيوبهم، وأذكر أن شاعراً كبيراً حصل مؤخراً على جائزة الدولة التقديرية فى الشعر، لم يستطع فى بدايته أن ينشر ديوانه الأول إلا بعد أن دخلت زوجته جمعية، وأعطتها له ليدفع تكاليف الطباعة. وأعلم أن عدداً من دور النشر الخاصة الآن تعيش على طباعة كتب الكتاب المبتدئين بشرط أن يدفع لها الكتَّاب التكلفة كاملة زائد هامش ربح. ولا أحد يعرف كيف يدبر هؤلاء الكتاب نفقات طباعة كتبهم.
وحتى الكتاب الكبار لا يتقاضون مكافآت ذات قيمة. أذكر أنى منذ خمس سنوات تقريباً نشرت كتاباً فى سلسلة شهيرة، فى دار نشر صحفية كبرى، وفوجئت بأن مكافأة النشر ستمائة جنيه، وقال لى رئيس التحرير: ما رأيك لو أخذت بقيمة المكافأة نسخاً من الكتاب؟ وبالفعل أخذت نسخاً بدلاً من المكافأة لأن المؤسسة تعانى مشاكل مالية، وفى دار نشر صحفية أخرى طبعوا لى كتاباً وحين ذهبت للسؤال عن المكافأة وجدتهم متعسرين، قالوا لى إنهم يدبرون أجور العاملين بالكاد، وبعد شهور من صدور الكتاب وجدت قيمة المكافأة لا تزيد على ألف وثلاثمائة جنيه. علماً بأن عدد النسخ المطبوعة كان ثلاثة آلاف، أى أن نصيب الكاتب عن النسخة حوالى أربعة قروش.
والأمثلة كثيرة على حال المكافآت، وأنا شخصياً لولا أن لى دخلاً من الكتابة للتلفزيون لما استطعت أن أواصل تأليف الكتب. لهذا أريد أن أقدم اقتراحاً لكل من يهمه أمر الكتاب والإبداع فى مصر، واقتراحى ببساطة أن تقوم الدولة بدفع عشرة آلاف جنيه للكاتب الذى ينشر كتاباً فى مؤسسة حكومية، أو صحفية، عن كل كتاب يصدر فى مصر. وهذا لن يكلف الدولة كثيراً، فلو افترضنا أن هذه الدور تطبع ألفى كتاب فى العام، فمعنى هذا أننا نريد عشرين مليون جنيه، وهو مبلغ زهيد بالنسبة للمشروعات الكبرى التى تقيمها مصر الآن.
أما الكتاب الشبان فأقترح أن يقوم اتحاد الكتاب بتقييم أعمالهم، وأن يصرف لمن تتوافر له الموهبة والجودة خمسة آلاف جنيه، وهذا العدد لن يتجاوز مائتى كاتب سيكلفون الدولة حوالى مليون جنيه. أى أن المبلغ المطلوب كله لن يزيد على أحد عشر مليون جنيه مصرى لا غير. مبلغ قليل جداً بالنسبة لميزانية دولة بحجم مصر، لكنه سيكفل حياة كريمة للكتاب، وسيسهم فى ازدهار الكتابة والتأليف. فهل يمكن أن يتحول هذا الطلب إلى حقيقة؟
خطاب السفير عبد الرءوف الريدى
كتبت فى يومياتى السابقة عن مكتبات الكتّاب، وكيف يشغل بال الكتاب مصير مكتباتهم، وقد وصلتنى رسالة فور النشر من السفير عبد الرءوف الريدى، رئيس مجلس إدارة مكتبة مصر العامة بهذا الخصوص، ومما جاء فيها: «إن مكتبة مصر العامة أصبحت هى المكتبة الرائدة فى المكتبات العامة فى مصر، وتضم منظومتها سبع عشرة مكتبة فى مختلف المحافظات، ومن المتوقع أن يزيد هذا الرقم فى أواخر هذا العام بمشيئة الله إلى تسع عشرة مكتبة. ومن جانبنا فإننا نرحب بتلقى أية كتب مهداة من أصحاب المكتبات الذين أشرت إليهم فى يومياتكم...».
شكراً لسيادة السفير الريدى على اهتمامه، وأضم صوتى لصوته بالتبرع لمكتبة مصر العامة بمكتبات الكتاب والباحثين كمكان يعرف قيمة ما تركوه من كتب، على أن يكون من حق الكاتب أن يوضع اسمه على مكتبته التى تبرع بها.