بالشمع الأحمر

البحث عن «تورتة»!!

إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى

ليلة استثنائية خالفت السيناريوهات التقليدية. اختفى العريس من الحفل، وكان متوقعا أن تبحث العروس وعائلتها عن مبرر واهن حتى تهدأ الأمور، وتظهر بعد فترة الجملة المعتادة: «مفيش نصيب»! غير أن نهال قررت المواجهة، وكتبت منشورا على «فيس بوك» عن مصطفى الذى اختفى فجأة، بعد أن أخذ «التورتة»، وتركها وحيدة فى الكوشة!
نهال ليست ناشطة إلكترونية، ومصطفى ليس نجم مجتمع، لكن المنشور اكتسح موقع التواصل الاجتماعى، ليكتسب الاثنان شهرة مؤقتة، سرعان ما تتراجع بعد أن ينشغل أنصار كل منهما بفضيحة أخرى، يتبادلون فيها إطلاق وجهات نظر، لا تعتمد عادة على منطق. من تبنّى وجهة نظر نهال لم يسمع سوى طرف واحد، ومن انحاز لمصطفى لم يكترث بهشاشة دفاعه عن نفسه، وظهر طرف ثالث يؤكد أن الأزمة كلها مُصطنعة، بهدف البحث عن «تريند»!! أى أن يكون المنشور أكثر تداولا، مما يحقق قدرا من المكاسب، فضلا عن شهرة ولو وقتية!
تفتح وسائل التواصل نوافذ للانتشار، وتتيح الفرصة لإبداء وجهات نظر فى كل شىء، ويتعامل معها الغالبية بتلقائية منزوعة الدسم، ينطلقون بالكلام دون تفكير، رغم أن قليلا من التحليل قد يقودنا إلى نتائج مبهرة، تضع أيدينا على مناطق الخلل فينا، غير أن المشكلة أننا بتنا مقتنعين بأن الكمال من صفاتنا الشخصية، ومن يخالفنا هو «الناقص» دائما، ولا أحتاج إلى أدلة لإثبات ذلك، فكلنا نتابع غزواتنا فى مختلف المجالات، حيث نُكرّس سياسة الكيل بمكيالين، لتسيطر حالة من انعدام الموضوعية. قد تبدو بعض الحالات المتداولة تافهة، لكن أصداءها لا تخلو من دلالات تستحق التوقف، فحتى التفاهات قد تكون أعراضا لأمراض مستعصية، والأزمة المُزمنة تتمثل فى انقراض الموضوعية، وتبنى آراء منحازة اعتمادا على انفعالات سطحية.
قبل سنوات انتبه الدكتور سيد عويس إلى ظاهرة لم تشغل بال الكثيرين، وهى العبارات المُدوّنة على السيارات، كان الغالبية يقرأونها ويبتسمون، وقد يتداولون بعضها من باب التندر بطرافتها، لكنه قام بتحليلها، ليُبدع كتابه المهم «هتاف الصامتين»، الذى أظهر أن المصريين اتخذوا من هذه العبارات متنفسا لآرائهم، بعد أن ضاقت بهم وسائل التعبير الأخرى، فصاغوا شعارات أصبحت بمثابة ثورات خافتة، تتحرك على أربع عجلات! وأعتقد أن منشورات «فيس بوك» هى المحاكاة العصرية لعبارات السيارات، لهذا تحتاج إلى دراسة اجتماعية مماثلة، لبحث أسباب تحوّل الكثيرين إلى «ظواهر كلامية»، خالية من المضمون الحقيقى فى معظم الأوقات. لا يختلف الأمر كثيرا فى حالة «عريس التورتة»، عن مناوشات صاخبة تابعناها فى الخلاف على عبد الناصر والسادات خلال الاحتفال بانتصارات أكتوبر، فالمهم هو التنابذ بالانحياز، انطلاقا من منصات التعصب لا اعتمادا على أسانيد منهجية، تُحترم حتى فى حالة الخلاف معها.
من جديد أؤكد أن الحل ليس فى إطلاق النار على وسائل التواصل، وترديد الاتهام المعتاد بأنها ساحات لمعارك الجيل الرابع أو العاشر، لأنها فى المقابل منصات مهمة للتعبير، تتضمن أحيانا رؤى بالغة الأهمية. والمشكلة التى تعانى منها ليست مقصورة عليها، فهى مجرد انعكاس لحالة هيستيريا جماعية تنتشر فى واقعنا العربى، سوف تستمر حتى لو تم إغلاق هذه المواقع، فنصبح كمن يتعاطى المُسكنات لعلاج أسباب الألم، ويظل الاحتقان يتفاعل حتى ينتهى بانتكاسة حقيقية، وأرى أن الشفاء لن يتم إلا بتدريب أنفسنا على احترام المنطق، لأن غيابه خطر لو تعلمون عظيم، فالخلاف فى الرأى وقتها يُفسد للود كل قضية، ويصبح غالبيتنا مجرد متهافتين على فُتات كلمات، يحسبه الجوعان «تورتة»!!