احم احم !

وداعاً كشرى وسلامنا لحمادة والبرنس

هشام مبارك
هشام مبارك

لا أذكر أنى ضبطته يوما متلبسا بتكشيرة ولا فارقت الابتسامة وجهه لحظة واحدة، فالابتسامة هى سلاح البسطاء الذى يواجهون به أوجاعهم وآلامهم دون شكوى أو ضجيج فهل يجرؤ أحد منا نحن البسطاء أن يتخلى عن سلاحه؟ بالأمس كان موعد الزميل والصديق والأخ الحبيب الخلوق أحمد عبد المنعم أو أحمد كشرى كما كان يحلو للجميع أن ينادوه لكى يسبقنا إلى الدار الآخرة حيث لا نصب ولا تعب.. أحمد كشرى نجم من نجوم قسم الكومبيوتر والمونتاج فى الدور الخامس ذلك القسم المسئول عن تحويل أحلامنا التى نكتبها على الورق إلى صفحات مكتملة فى مرحلتها النهائية قبل إرسالها للمطبعة بعد استلامها فى صورة ماكيتات من الزملاء فى قسم سكرتارية التحرير الذى يضم أمهر المخرجين الصحفيين فى الوطن العربى. رحل متأثرا بجلطة مفاجئة صباح السبت الماضى وهو الذى كان طوال يوم الجمعة يصول ويجول فى صالة الكومبيوتر يداعب ذلك الزميل الذى يجلس عن يساره ويلاغى الآخر الذى يجلس عن يمينه بل ويقوم ليجلس لحظة بجوار كل زميل فى القسم وكأنه يودعهم الوداع الأخير رحل أحمد كشرى أحد الجنود المجهولين ربما للقارئ العزيز ولكنهم معروفون جدا لكل الزملاء الصحفيين فى دار أخبار اليوم التى لا فرق فيها بين صحفى وموظف وعامل.. كلنا جنود فى بلاط صاحبة الجلالة.. نتقاسم اللقمة والضحكة والهموم فى مهنة تستنزف كل قطرة فى دمائنا. رحل أحمد عبدالمنعم وقبل أقل من ثلاثة شهور سبقه زميلنا الحبيب حمادة عبد الرازق فى نفس القسم وكأن كشرى لم يتحمل فراق حمادة فلحق به بعد فترة قليلة ربما فى حكم الزمن كثيرة على من يتألم وجعا على فراق صديق أو حبيب. كان حمادة عبد الرازق كذلك مثل نسمة طيبة فى نهار صيفى شديد الحرارة. كنت إذا جلست بجواره أثناء تنفيذ الصفحة أكتشف أنه رغم قلة كلامه إلا أنه يحمل قلبا كبيرا وعقلا رزينا، حلو المعشر واللسان. كان يسألنى فى براءة عن خطورة الكلمة فأقول له: بل أسمعنى أنت رأيك أولاً فيصول ويجول وفى كل مرة أقول له مندهشا: صدقنى يا حمادة ما قلته يفوق ما تعلمناه سواء فى الدراسة أو فى الحياة العملية. وبين حمادة عبد الرازق وأحمد عبد المنعم رحل الحبيب والصديق خالد البرنس نجم قسم الاستعلامات الذى كان برنسا شكلا وموضوعا، يستقبل جميع الناس بوجه طلق.. يصطحبك إلى باب الأسانسير يحكى ويضحك ويتندر.. كنت أقول له: إنك مشروع صحفى وكاتب كبير.. ظهر ذلك جليا فى بوستاته على الفيس التى كشفت عن مواهبه فكان يبتسم ويقول: مين عارف قول يارب. يبدو أن كل من يعمل فى دار صحفية تصيبه تلك العدوى بحب الصحافة والوقوع فى براثنها. كثير من المقالات والموضوعات أستمد أفكارها من النقاش معهم ولم لا وهم أول من يقرأون لنا ونرى ردود فعلهم على ما نكتبه وجها لوجه، وربما لو تبدلت مواقعنا لبرزوا فى الكتابة وقدموا للقراء ما لم نستطع أن نقدمه نحن له. رحل كشرى وغدا سيلحق بكشرى وحمادة وخالد أحد منا بمقدمات أو بدون.. فالموت ليس فى حاجة لأن يرسل لنا رسولا يعلن عن قرب وصوله وهذه حكمة المولى عز وجل ألا تعرف لحظتك بالضبط.. لا لكى تظن أن الموت بعيد عنك ولكن لكى تكون مستعدا لاستقباله فى أى وقت.
إننى أكتب هذه الكلمات مباشرة من جنازة أحمد عبد المنعم بين أنين والدته التى تنتحب صابرة وهى تسأله نفس السؤال الذى كانت تسأله له كلما هم بالرحيل من بيتها لبيته: قوام قوام كده يا أحمد.. مش كنت تستنى شوية يا نور عينى، مستعجل ليه ياحبيبى؟ فيجيبها: مش حتأخر عليكى يامه وحارجعلك تانى بكرة ولا بعده بالكتير، هذه المرة لن يستطيع أحمد الرد المعتاد بل سيرد عليها ردا لن نسمعه ونحن أحياء: موعدنا جنة الخلد يا أمى.. أكتب وسط دموع زوجته وشريكة عمره وصراخ بناته وهن يودعنه: حاتوحشنا أوى أوى يا بابا. أكتب وقد رأيت نفسى داخل نفس النعش المحمول أمامنا ورأيت زوجتى فى زوجته وبناتى فى بناته، فدعوت الله أن يرحم أحمد كشرى ويربط على قلب أمه وزوجته وبناته ويرحمنا برحمته الواسعة ويحسن خواتيمنا. وإنا لله وإنا إليه راجعون.