حكايات| ملحمة «أم البطل».. أغنية كُتبت بدم الشهيد وهددت حياة شريفة فاضل

أم البطل شريفة فاضل
أم البطل شريفة فاضل

«شد الرحال شق الرمال.. هد الجبال عدى المحال .. زرع العلم طرح الأمل»، بهذه الكلمات سطرت المطربة شريفة فاضل بطولة ابنها الشهيد الذي بذل دمه دفاعا عن وطنه في حرب الاستنزاف العظيمة.

رغم مرور 46 عاما على أغنية «أم البطل» إلا أنها كانت ومازالت حتى الآن واحدة ضمن أعظم الأغنيات التي خلدها التاريخ الفني.

كُتبت نظريًا هذه الأغنية بالكلمات، وعمليًا كُتبت كلماتها بدماء الشهداء، أما لحنها فلم يكن بالموسيقى وإنما بأصوات وبكاء وأنين وألم كل أم وأب وكل أسرة فقدت فلذة كبدها الذي تحول في غمضة عين إلى شهيد أثناء الحرب.

اقرأ للمحرر: لعنة الفراعنة.. صقر «محموم» وتعويذة «تيتانيك» وقصص مرعبة أخرى

نحن لسنا بصدد الحديث عن مجرد أغنية لاقت إعجاب الغالبية العظمى من مستمعيها، ولا بصدد الكتابة عن أغنية حققت شهرة ونجاح في حينها وبعد ذلك خلدها النسيان، أنما نذكر بملحمة بطولية بذل فيها الدماء من أجل الوطن.

تحولت أغنية «أم البطل» بمرور الزمن إلى علامة فارقة في تاريخ حرب أكتوبر 1973، البعض أطلق عليها صائدة الذكريات، فكل مقطع كفيل بأن يحلق بخيال المستمع إلى آفاق بعيدة من الشجن.

تعتبر الأغنية من نوعية الأغاني الواقعية التي وقعت أحداثها بالفعل، مثلها مثل أي عمل درامي أو تاريخي يكتب في تتر البداية هذه الأحداث مستمدة من الواقع، لكن واقع هذه الأغنية يختلف كلية عن أي واقع أخر، وذلك باختصار لأن من قامت بغنائها هي «أم البطل».

فاجعة حزينة

تلقت الفنانة شريفة فاضل في صباح يوم عصيب من أيام حرب الاستنزاف أصعب خبر من الممكن أن تسمعه أم في حياتها وهو استشهاد نجلها الأكبر وأول فرحتها الملازم أول طيار «سيد السيد بدير» أثناء إحدى الاشتباكات مع العدو، كان شابًا يافعًا قويًا، يمتلئ بالشباب والحيوية، حديث التخرج، تلقى تدريباته على الطيران في روسيا.. دارت بها الدنيا.

هبط على المطربة الشهيرة هذا الخبر كالصاعقة، فالخبر الحزين أضاف لقسمات وجهها سنوات وسنوات، أقعدها المرض والحزن، أصيبت بعد هذا الخبر بانهيار عصبي حاد دفعها لاعتزال الجميع، أسرتها، جيرانها، أصدقائها، حتى حياتها الفنية ابتعدت عنها تمامًا بعدما أعلنت اعتزالها الفن، أسابيع وشهور مرت منذ الخبر المشئوم والفنانة المعتزلة حبيسة غرفتها، لم يتبق لها من حياتها مع نجلها سوى شريط من الذكريات يمر أمامها بين الحين والأخر وكأنه مشهد سينمائي حزين.

 

اقرأ للمحرر: الحبس بالمقبرة يعالج العقم .. عادة يرويها أثري يؤمن بسحر الفراعنة

 

الخروج من عنق الزجاجة

تماسكت الفنانة الكبيرة بعد فترة من الزمن وانتفضت من عزلتها وقررت كسر حاجز الصمت الذي غلف حياتها من خلال إنشاد أغنية وطنية تخرج بها للنور وتُحلق بها إلى آفاق بعيدة.

ربما كانت تعني بهذا العمل أن تصرخ من شدة الوجع، أو أن تهرب من لوعة الفراق، وربما تولدت لديها الرغبة في الخروج من كبوتها وعزلتها وترفع عن كاهلها حمل الجبال الذي تحملته فوق عاتقها وكتمته بين ضلوعها واعتصر قلبها، لذا قامت بالاتصال هاتفيًا بصديقتها الشاعرة الكبيرة «نبيلة قنديل»، وطلبت مقابلتها لأمر هام هي وزوجها المُلحن الكبير آنذاك «على إسماعيل».

كانت فرحة الشاعرة كبيرة نظرًا لأنها المرة الأولى التي تقرر فيها الفنانة شريفة فاضل الخروج من حالة العزلة التي انتابتها منذ خبر استشهاد نجلها، وفي الموعد والزمان المحددين، تقابلت الفنانة المكلومة مع صديقتها الشاعرة وطلبت منها كتابة كلمات أغنية لنجلها الشهيد، شردت الشاعرة بتفكيرها للحظات ثم أومأت برأسها بالموافقة والدموع تملئ عينيها ودار بينهما الحوار التالي:-

 نبيلة قنديل: هل رغبتك تتمثل في كتابة أغنية عن نجلك أنت فقط؟

شريف فاضل: لا، أنا محتاجة كلمات أغنية عن كل «أم» فقدت نجلها خلال الحرب، عاوزه «أم» كل شهيد تكون فخورة بما قدمته من تضحية وبما فعله نجلها البطل، وأيضًا أرغب في أن تصل الأغنية لأمهات كل الأبطال الذين شاركوا في حرب أكتوبر من استشهد منهم ومن كُتبت له النجاة.

 كانت إجابة الفنانة شريفة فاضل بمثابة تغيير كلي وشامل في شكل وطريقة كتابة الأغنية، واستأنفتا سويًا حوارهما.. 

نبيلة قنديل: محتاجة مكان هادي أعرف أقعد وأكتب فيه

شريفة فاضل: هتكتبي دلوقتي هينفع ؟

نبيلة قنديل: أه، ينفع بس محتاجة أكون لوحدي شوية كده ونشوف

شريفة فاضل: طيب أنا هساعدك هعمل حاجة معملتهاش من وقت استشهاد نجلي

نبيلة قنديل: حاجة زي أية ؟

شريفة فاضل: تدخلي غرفة نجلي الشهيد وتكتبي، أنا تقريبًا مفتحتش غرفته ومحدش دخلها من يوم خبر استشهاده ومفيش مكان أحسن من كده ممكن يساعدك.

انتهى الحوار بين الشاعرة والفنانة بدخول المؤلفة «نبيلة قنديل» غرفة الملازم أول الشهيد طيار سيد بدير، أغلقت على نفسها الباب من الداخل وبعد عدة ساعات خرجت من الغرفة وهي تحمل في يدها ورقة بكلمات الأغنية، وبدأت في قرأتها أمام الحضور زوجها الملحن «علي إسماعيل والفنانة المعتزلة آنذاك شريفة فاضل».

كلمات سطرها الألم

 ابني حبيبي يا نور عيني .. بيضربوا بيك المثل.. كل الحبايب بتهنيني.. طبعًا ما أنا أم البطل.

يا مصر ولدي الحر.. أتربى وشبع من خيرك.. أتقوى من عظمه شمسك.. أتعلم على أيد أحرارك.. أتسلح بإيمانه واسمك..

- شد الرحال.. شق الرمال.. هد الجبال.. عدى المحال.. زرع العلم.. طرح الأمل.. وبقيت أنا أم البطل.

 ابني حبيبي يا نور عيني .. بيضربوا بيك المثل.. كل الحبايب بتهنيني.. طبعًا ما أنا أم البطل.

- يا مصر ولدي الحر.. للعالم وصلت أخباره .. لشجاعته وتحريره لأرضه.. اتلموا أخواته وأعمامه.. من كل بلد عربي جم جنبه..

الكل قال باسم النضال.. وقفه رجال صدق اللي قال.. زرعوا العلم .. طرحوا الأمل.. وبقيت أنا أم البطل.

 ابني حبيبي يا نور عيني .. بيضربوا بيك المثل.. كل الحبايب بتهنيني.. طبعًا ما أنا أم البطل... يا مصر ده أنا أم البطل.

صدمة عصبية عنيفة

دخلت الفنانة شريفة فاضل فور الانتهاء من سماع الكلمات في نوبة من البكاء الهستيري، وكأن كلمات الأغنية كتُبت بدموعها وآلامها، فقد شعرت أنها تعبر عنها بالفعل، هنا تدخل الملحن علي إسماعيل الذي تأثر بشدة وذرفت عيناه الدموع وطلب مهلة لصياغة هذه الكلمات في شكل لحن، فأخذ الكلمات وتوجه إلى منزله ولم ينم في هذه الليلة، عكف على وضع الترتيبات النهائية لهذا اللحن، وعاد في اليوم التالي بلحن شديد الروعة والدقة، وبمجرد أن عرضه على الفنانة شريفة فاضل بدا ظاهرًا على قسمات وجهها شدة التأثر، حاولت التظاهر بالتماسك لكنها فشلت غلبتها أحزانها ودخلت في نوبة بكاء هستيري للمرة الثانية.

موقف الإذاعة المصرية

 ذهبت الفنانة فاضل في اليوم الثالث لكتابة وتلحين الأغنية إلى ماسبيرو حيث مبنى الإذاعة والتلفزيون التقت بالفنان «بابا شارو» وكان رئيس الإذاعة المصرية آنذاك وعرضت عليه الأغنية لتسجيلها في استوديوهات الإذاعة ورحب «بابا شارو» بالأغنية وكلماتها وفكرتها كلها من الأساس إلا إنه اعترض على اللحن لاعتماده على الناي في العزف، ما جعل الأغنية حزينة جدًا وهو ما يدفع المستمع لعدم تقبلها فضلاً عن إشفاقه على الجنود الذين سيستمعون إليها فيما بعد، لذا طلب من مهندسي الصوت بالإذاعة المصرية إضافة الآلات الموسيقية الراقصة للمساعدة على سرعة الرتم والأداء، ما اضطر شريفة فاضل للانصياع إلى تعليمات «بابا شارو» رئيس الإذاعة المصرية.

أصدر «شارو» تعليماته للقائمين على التجهيزات الفنية بضرورة وسرعة إعداد وتجهيز الأستوديو، وطلب من شريفة فاضل الاستعداد لدخول الأستوديو فورًا للتسجيل.

اقرأ حكاية أخرىنصف قرن «ع اللي جرى».. 48 مطربًا في سباق «النفس الطويل»

إغماء وبكاء

بدأت المطربة الكبيرة في الغناء لكنها دخلت في نوبة حادة من البكاء، وتكرر الأمر وتوقف التسجيل أكثر من مرة بسبب بكائها وسقوطها مغشيًا عليها، كلما حاولت استعادت تماسكها والاستمرار في الغناء، لدرجة أن الفنانة «فايزة أحمد» كانت موجودة بالصدفة آنذاك في الإذاعة المصرية وشاهدت تفاصيل ما حدث وطلبت منها الانتظار لعدة أسابيع حتى تستعيد عافيتها وتتمكن من الغناء، لكنها رفضت كل محاولات إثنائها عن الغناء أو حتى التأجيل لوقت أخر، وأصرت على التسجيل حتى نجحت أخيرًا في التماسك وأنهت الأغنية كلها على مرة واحدة ولم يستغرق تسجيلها سوى عدة ساعات خلال نفس اليوم، وخرجت الأغنية للنور بصوت شريفة فاضل ودموع عينيها الحقيقية وقت الغناء وحملت كلمات الأغنية الأنين والألم والفخر والعزة والكرامة في وقت واحد.

ممنوع بأمر الأطباء

اعتبرت شريفة فاضل هذه الأغنية من أعظم أعمالها الفنية على الإطلاق والأقرب لقلبها ونفسها لدرجة أنها كانت تُصر على غنائها في كل حفلة تشدو فيها لكن في كل مرة كانت تنتابها حالة عصبية شديدة وتدخل في نوبة من البكاء الهستيري، لدرجة أن أحد شرايينها انفجر بسبب الضغط العصبي الواقع عليها ومحاولتها التماسك، حتى نصحها الأطباء بعدم غنائها مرة أخرى لأن كلمات الأغنية تمثل خطر على حياتها.

كانت تعليمات الأطباء حادة وقاطعة لذا فضلت شريفة فاضل اعتزال الغناء كله، ثم عادت للظهور للمرة الأخيرة في حياتها كمطربة لتشدو بأغنية «آه من الصبر»، وكانت هذه الأغنية هي أخر ما غنت «سلطانة الطرب في زمن الفن الجميل» بعدها اعتزلت الحياة العامة تمامًا لكن بقيت أغنيتها واسمها يتردد بشكل دائم.

 

 

 

 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي