يوميات الأخبار

يوم كان اقتناؤها... من الكبائر !!

د. مصطفى رجب
د. مصطفى رجب

د. مصطفى رجب

نظر الرجل إلى أقدامنا الحافية ولم ينظر إلى أيدينا التى تصفق وتلوح له..إنه ناصر.

المكان أرض مرشح المياه المواجهة لمبنى تليفزيون أسوان وقبر العقاد ويعرفه أهل أسوان حاليا ومنهم من شهد هذه الواقعة
..............
كنا فى بدايات الستينيات فى يناير ننتظر زيارته لأسوان وفى إحداها كنا أطفال حى فقير جنوب المدينة اسمه (كوكا) نلعب الكرة الشراب فى مساحة ترابية أحطناها بالحجارة الصغيرة من أرض تخزين الشبة للمرشح الملاصق لحينا الموجود حتى اليوم، والمنطقة مسورة بسلك شائك.. وفجأة دوت سرينة موتوسيكلات ركب عبد الناصر فجرينا إلى السور السلكى ووقفنا جميعا نصفق له ونشير له بأيدينا فالمنطقة خالية من الناس التى احتشدت على الكورنيش ونحن محظوظون أننا نراه عن قرب جدا عندما يلف الموكب فى اتجاه الكورنيش.. وكان ناصر فى السيارة المكشوفة فأشار لنا بيده مبتسما ومضى الموكب إلى الكورنيش ثم مبنى المحافظة.. وبعد بعض الوقت دخلت من باب مخزن الشبة سيارة سوداء إلى الملعب وتوقفت ونزل منها رجل طويل عريض فتوقفنا عن اللعب خائفين ونادى علينا الرجل.. تعالوا كل واحد يقيس له كاوتش (كاوتش باتا) وما تلعبوش حافيين تانى.. فلم نصدق ما سمعنا إلا عندما فتح شنطة السيارة ورأينا الكاوتشات فى علبها الكرتونية الصفراء وعليها علامة (باتا)، وفعلا أخذ كل واحد منا حذاء كاوتش لأول مرة فى حياته.
نظر الرجل إلى أقدامنا الحافية ولم ينظر إلى أيدينا التى تصفق وتلوح له.. إنه ناصر.
..............
هذا ما ذكره المهندس الاستشارى فرج حمودة على صفحته على موقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك» وهذا ما جعلنى أعود  أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات فى قرانا الفقيرة فى الصعيد حيث كان اقتناء جزمة ترفا واختيالا وربما رأى فيه بعض متشددى العلماء ما يقارب التحريم من الكراهة!!، لكونه إسرافا وتفاخرا وعلوَّا فى الأرض.
فقد كان المرفهون من الناس يلبسون «قباقيب» والقبقاب قطعة من الجلد تغطى جزءا من سطح القدم وترتبط فى جانبيها بقطعة من الخشب بطول القدم... ولأنه من الخشب قد كانت له طرقعة فوق أية أرض صلبة أو مبلطة بالبلاط، وفى أوائل الستينيات جاء مدرس شاب يرتدى البنطلون والقميص (!!) إلى مدرستنا الإبتدائية،
وكانت تلك المدرسة أربع حجرات مظلمات وكانت تلك الحجرات/ الفصول باردة، مظلمة، حيث لا كهرباء ولا منافذ إلا منفذا خشبيا ضعيفا، فلا الفصول ترى الشمس ولا الشمس تزور الفصول، وهى تحتوى مقاعد (تُخَتًا) خشبية تتكدس بين شقوقها عائلاتٌ عريقةٌ قديمةٌ مؤصَّلة من البق والقمل والبراغيث والعناكب من سلالات تمتد أنسابها إلى قوم تُبَّع وذى نُوَاس وذى القرنين. وأما حيطانها فهى ملأى بالشقوق المسكونة بالعقارب والخنافس والثعابين والأبراص وشقائقهن مما لا نعلم من الدواب. وكان من المعتاد أن تلدغ أحدنا عقرب كل يوم فنحمله إلى أحد شيوخنا فيرقيه بقراءة آيات قرآنية عليه ويربط بمنديل قماشى قبيل موضع اللدغة، ثم يعمد إلى «موسى» فيجرح موضع اللدغة ليخرج السم مع الدم... ويبرأ الملدوغ عادة بعد ساعة أو ساعتين. وكان أكثرنا يتمنى أن يكون هو اللديغ يوما ما، لأن شيوخنا كانوا يصنعون كوبا من الماء المحلى بالسكر والليمون يسقونه للَّديغ تعجيلا بشفائه... وكان ذلك المشروب آنذاك ضربا من الرفاهية يدل به من يناله على زملائه، لأنه لا يحلم بذوقه فى البيت إلا فى حالات المرض الشديد!!.
أما مقاعد التلاميذ فكانت تغص بالبراغيث والقمل والدود وسائر الحشرات الصغيرة.
..............
وكنا فى مدرستنا تلك وهى فى شمال القرية لا نعرف ما عسى أن يكون ذلك اللباس الغريب المخيف (البنطلون !!) الذى كنا نبدل باءه ميما فنقول (منطلون)... كنا نرى صورته فى الصحف فقط إذا وقعت أعيننا على صحيفة، أما التليفزيون فلم نكن نسمع به فضلا عن أن نراه لأنه لم يكن قد دخل مصر بعد.
وكنا فى مدرستنا تلك وهى فى شمال القرية نسمع عن مدرستين ابتدائيتين أخريين تقعان فى جنوب القرية، يأتى إليهما مدرسون يرتدون تلك «المناطيل»، ويأتى إليهما مدرسات رءوسهن لا غطاء لها، ويرتدين ملابس تبلغ الركبة دون أن تتجاوزها فتظهر سيقانهن!!.
وكنا فى طابور الصباح الذى يتولاه شيخ المدرسة لا نتجاوز وضعيتى (صفا) و(انتباه) ولا نفهم مدلول هاتين الكلمتين ولا أصلهما، لكننا فهمنا ما يجب أن نفعل إذا استمعنا إلى كل منهما. وكان الشيخ يطلب منا يوميا أن نردد النشيد الوطنى الذى تقرر إنشاده فى طابور الصباح فى المدارس وكان قد ألفه الشاعر المرحوم عبد الله شمس الدين بعد العدوان الثلاثى على بورسعيد 1956 :
الله أكبر الله أكبر
الله أكبر فوق كيد المعتدى
والله للمظلوم خير مؤيد
أنا باليقين والإيمان سأفتدى
بلدى
ونور الحق يسطع فى يدى
قولوا معى... قولوا معى
الله الله الله أكبر
الله فوق المعتدى
قولوا معى الويل للمستعمر
والله فوق الغادر المتكبر
الله أكبر يا بلادى كبرى
وخذى بناصية المغير ودمرى
قولوا معى قولوا معى
الله الله الله أكبر
الله فوق المعتدى.
ثم يطلب منا الناظر/ الشيخ - كل أسبوع أو أسبوعين - أن نردد النشيد القومى لمحافظة سوهاج، وهو للشاعر ابن سوهاج المرحوم محمود بكر هلال، وقرر اللواء المحافظ المرحوم عبد الحميد خيرت إنشاده فى كل مدارس المحافظة فى طابور الصباح:
يا بنى سوهاج للعلياء هيا
ننشد المجد ونبنيه سويا
مجد مينا وبنيه فى القديم
صانع التاريخ والمجد العظيم... الخ
..............
فلما تولى الأفندى حسين تسيير طابور الصباح استحدث لنا ما لم يكن لنا به عهدٌ من تلك الحركات التى أنكرناها فى البداية كل الإنكار، ثم تأقلمنا معها كثنى الجذع بوضع الركوع والنهوض منه ورفع الذراعين لأعلى وتحريكهما والنطنطة بوضع يقال له: «محلك سر»... الخ تلك «البدع الحسينية».. !!
وكان الأفندى الشاب الذى جاء مدرستنا مرتديا بنطلونا وقميصا قد أسند له الناظر إدارة طابور الصباح، فكان يسومنا العذاب بتسميع النشيدين معا كل صباح، ويفاجئنا بعد أن ننتهى من النشيد بتكليفنا إعادة إنشاده مرة أخرى بصوت أشد !!
فكنا نتعمد أن نسرف فى الصراخ بالنشيد حتى تتجمع نساء المنازل المحيطة بالمدرسة فوق أسطحهن المشرفة على «الحوش» يستغثن ويولولن من هذا «الوَشّ» ويتأملن هذا الأفندى الذى أربك المنطقة.
على أن هذا كله لم يكن شيئا مذكورا بجانب الطامة الكبرى التى اخترعها الأفندى حسين وهى تظهر حين ينادى: «اللى جاى حافى يطلع برة قدام الطابور» فيخرج ثلاثة أرباع التلاميذ ويظل الربع فقط ممن ينتعلون مراكيب بالية لا يكاد لونها الأصلى يظهر من كثرة ما ألصق بها الإسكافى من رُقَعٍ جلدية مختلف ألوانها، أو صنادل ممزقة تحيط بها المسامير من كل جانب، أو قباقيب خشبية مزعجة...
ويتعالى صراخ الأطفال أمام شراسة الأفندى حسين وهو يهوى بعصاه بلا أدنى رحمة على رءوسهم وظهورهم وجنوبهم وأذرعهم.. وهو يعلم أنهم وآباءهم لا يملكون ثمن حذاء أو صندل أو قبقاب. ولم يختاروا الحفاء، بل هو الذى اختارهم......
ومع تعالى استغاثات الأطفال وصراخهم بأصوات مدوية رفيعة، تتقافز السيدات الجارات إلى أسطح منازلهن المشرفة على المدرسة، يشاركن الأطفال الحفاة الذين يُجْلَدون الاستغاثات والصراخ حتى يرق قلب الأفندى حسين وهو لا يأبه كثيرا... ولكنه أحيانا كان يرق !!
وكان الفارق بين الجزمة والمركوب أن الجزمة كلها قطع متصلة من جلد واحد ذى لون واحد، أما المركوب فكان فى الأصل جزمة بالية يصعب التحقق من أصل لونها، أصابتها الثقوب ذات اليمين وذات الشمال، فيذهب بها أصحابها إلى «الملاخ» فيضع رقعة من جلد جزم بالية عنده، ويخيط هذه الرقعة فوق الركن المثقوب من الجزمة بإبرة غليظة معه، وكان من الطبيعى أن تكون الجزمة فى الأصل سوداء اللون، ثم تعلوها رقاع ثلاث أو أربع حمراء وصفراء وبنية ووردية حسب المتاح عند الملاخ !!
ومع ذلك يتيه بها أصحابها إذا مشوا بها ناظرين باحتقار إلى زملائهم الذين يلبسون «الزنانيب» الرخيصة، أو القباقيب المزعجة، وكان أولئك الزنانيبيون والقباقيبيون ينظرون أيضا باستكبار واحتقار إلى زملائهم الحفاة !!
و.... نستكمل لاحقا.
< استاذ بجامعة سوهاج