من دفتر الأحوال

إبرة المستحيل

جمال فهمى
جمال فهمى

 ليس هناك مستحيل.. قد تبدو هذه العبارة للكثيرين بلا معنى وتتمتع ببرودة الكلاشيهات الخطابية، أو «الحنجورية» بحسب الثقافة اللغوية السائدة حاليا، غير أن نظرة واحدة على حصاد مسيرة التحضر والتطور الإنسانيين خصوصا ما حدث فى القرن الأخير من تاريخ البشرية، ربما يقنع حتى الحمار (لمؤاخذة) بأن فكرة «الاستحالة المطلقة» فكرة خرافية ومن شأنها أن تحرض خلق الله على الكسل اللذيذ وراحة القعاد والنوم المريح على تلال التأخر والخراب، على أساس أن الدنيا شكلها كده، وخُلقت هكذا، ومفيش فايدة.. وكل عام وأنتم كما أنتم دلوقتي!!
إذا كنت يا عزيزى فهمت من الفقرة السابقة أن العبد لله ينكر ويرفض كل أشكال الاستحالات، فأنا آسف جدا.. لكن اسمح لى ألفت نظر حضرتك إلى استعمالى كلمة «مطلقة» قبل سطرين اثنين فقط، ما يشير إلى أننى ممن يؤمنون بأن الاستحالة عموما أمر نسبى ومشدود دائما لظروف ومعطيات مادية وعقلية ومعرفية كثيرة، بمعنى أن ما يبدو مستحيلا الآن قد لا يكون كذلك غدا أو بعد غد.. مرة أخرى أنظر إلى حجم التطور الرهيب الذى شهدته حياة جيل واحد من الأجيال التى مازالت تسعى فى الحياة على سطح كوكبنا فى الزمن الراهن، يعنى مثلا، هل كان يمكنك قبل خمسة وعشرين عاما فقط أن تتخيل صديقا (أو عدوا) يهاتفك وترد عليه بينما أنت تمشى وتتبختر فى الشارع، وهوه (المتصل) قاعد أو واقف فى الحمام، هل كان عقلك يستطيع ان يدرك ان ما تفعله وسائل التواصل الاجتماعى وتحولها لأداة خطيرة تمكنك من متابعة كل اخبار الدنيا (وهرتلات جحافل المجانين) فى التو واللحظة وأينما وفى أى مكان كنت؟!
حتى اللغة، لأنها كائن حى يعكس تطور حياة البشر واختلاف احتياجاتهم التعبيرية، تغيرت وسقط منها كلمات وعبارات كانت مأثورة ومحفوظة لكنها فقدت بالزمن موضوعها وأضحت المعانى التى تحملها غريبة على الواقع المعيش فى دنيانا الحالية فهجرها الناس رويدا رويدا وتكاد تستقر الآن فى غياهب النسيان.
الرحيل، فهى تلك العبارة التى تعود الناس فى مشارق الأرض ومغاربها على استعمالها بمناسبة أى محاولة لاختراق جدار ما يظنونه مستحيلا، إذ كانوا يكتفون بوصفها بأنها تشبه «البحث عن إبرة فى كومة قش».
غير أن تلك «الإبرة» الضائعة، لم يعد العثور عليها وانتشالها من تلال القش مستحيلا، فمثلا حدث قبل سنوات قليلة ان قام ممثل إيطالى مغمور يدعى «سيفين ساخسالبر» بتجربة طريفة وغريبة كان مسرحها متحف «قصر طوكيو» للفن الحديث فى باريس، إذ طلب الرجل من إدارة المتحف تخصيص مكان ملائم لتنفيذ مغامرة البحث عن «إبرة» محشورة فى قلب كومة قش، وقد وافقت الإدارة بالفعل على الطلب ونصبت له فى إحدى حج`رات المبنى جبلا صغيرا من القش، وقام مدير المتحف شخصيا بدس «الإبرة الصغيرة» فى بطن هذا الجبل قبل أن يترك الفنان غريب الأطوار لتجربته التى توقع لها هذا الأخير أن تكلل بالنجاح خلال أقل من 48 ساعة فقط.. وهذا هو ما حدث فعلا، إذ نقلت وسائل إعلام معتبرة فى العالم صور الرجل وهو يقبض على الإبرة الصغيرة وخلفه جبل أشم من القش!!
صباح الخير.