إنها مصر| كرم جبر يكتب: ذكـاء جمال عبد الناصر

الكاتب الصحفي كرم جبر رئيس الهيئة الوطنية للصحافة
الكاتب الصحفي كرم جبر رئيس الهيئة الوطنية للصحافة

ذكاء جمال عبد الناصر أنه لم يشهر سيف الإقصاء، لنجوم السياسة والفن والأدب والثقافة، الذين تربوا في أحضان الملكية، وامتدحوا الملك ونعمه وفضله.
لم يقطع رقبة محمد عبد الوهاب، الذي غنى لفاروق «ياللي أمال الشباب ترويها أيدك.. الليلة عيد الشباب.. الليلة عيدك»، وأصبح عبد الوهاب ملهماً للثورة، وعازفاً أمجادها ألحاناً حماسية على كل لسان.
 عبد الوهاب مطرب الملك، هو الذي لحن لجمال عبد الناصر «تسلم يا غالي ألفين سلامة.. كانت ليالي مجد وكرامة.. صحّيت بلادك من نوم طويل.. وكان جهادك ملوش مثيل».
 عبد الناصر هو الذي جمع القطبين، أم كلثوم وعبدالوهاب، وأنهى سنوات القطيعة والخلاف والعداء، وحدث لقاء السحاب في رائعة «أنت عمري».. وكانت ليلة أحلام أسعدت المصريين جميعاً.
 أم كلثوم هي التي ارتجلت كلمات بديعة في أغنية «يا ليلة العيد»، عندما دخل الملك فاروق النادي الأهلي وهو يقود سيارته بنفسه، وجلس في الصف الأول، فغنت له «يا نيلنا ميتك سكر.. وزرعك في الغيطان نور.. يعيش فاروق ويتهني.. ونحيى له ليالي العيد».
 أم كلثوم التي منحها الملك فاروق نيشان الكمال، وهو أول إنعام ملكي تحظى به فنانة مصرية في التاريخ، وأصبح لقبها «صاحبة العصمة»، هي أيضا التي لقبها عبد الناصر «الهرم الرابع»، وغنت له «يا جمال يا مثال الوطنية».
 محمد حسنين هيكل، أيضا - كان مداحاً للملك فاروق، وكتب له مقالا بعنوان: «في يوم عيدك يا مولاي» قال فيه: «مصر كلها تحتفل بعيد مُلكك، من أقصاها إلى أقصاها، لم تجد مصر ما تحيى به هذا العيد، سوى الهتاف باسمك والدعاء لك».
 هيكل كان الصديق الأقرب لعبد الناصر، وكتب خطبه خصوصاً خطاب «النكسة» بعد حرب 67، ورفض مطلقاً أن يستخدم كلمة «هزيمة»، واستخدم عبارات حركت الجماهير «لقد اتخذت قراراً أريدكم جميعاً أن تساعدوني عليه.. قررت أن أتنحى تماماً ونهائياً عن أي منصب رسمي، وأن أعود لصفوف الجماهير».
 عبد الناصر كان حريصاً على تكريم العلماء والفنانين في عيد العلم، إيماناً بدورهم وقدرتهم على الارتقاء بمصر، أم كلثوم وعبد الوهاب وطه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم وغيرهم، عرف قدرهم، فرفعوه فوق الأعناق.
الأربعينيات والخمسينيات، كانت صوبة دافئة للنبوغ والإلهام، فتفجرت المواهب المصرية في كل مكان، لأن الإبداع لا يرتوي إلا بالحرية.. وظلموا الملك فاروق عندما وصفوه بالديكتاتور الفاسد، ففي عهد الملكية تجسدت المواهب المصرية، التي ملأت سماء المنطقة.
عبد الناصر كان ذكياً لأنه آمن بأن علماء مصر وأدباءها وفنانيها ومثقفيها، ملك لمصر وليس للملكية، وأن ذلك الرصيد الذهبي لو تم المساس به، فقدت البلاد طوق الحماية الناعم، الرابض في ضميرها الوطني، والحارس لوعى شعبها.
 فأضاف إليهم، عبد الحليم حافظ وكمال الطويل ومحمد الموجي وصلاح جاهين ومبدعين شباناً، ورغم الحرب الدافئة على قلب الرئيس بين حليم وأم كلثوم، إلا أن عبدالناصر جمع الاثنين تحت مظلته القوية، في أعياد الثورة، فغنوا وأبدعوا، وغنى وراءهم الشعب المصري كله.
 لا سامحهم الله من تآمروا على القوة الذهبية المصرية من الخارج، فأرادوا استبدال أسماء نجومنا بنجومهم، ولهجتنا بلسان معوج وممسوخ، وأصوات فنانينا الرائعة، بعاريات الصدور والأفخاد، فساد إلهام الجسد، وانسحبت فنون الروح.
 لا سامحهم الله من ارتموا من أبناء الوطن، في أحضان الدولار والريال والدينار ورائحة الزيت، فأصبح الفنان صاحب «محفظة» وليس «رسالة».. وتصحرت حدائق الإبداع.