محرومون من معظم الأطعمة.. ملائكة تتألم جوعًا

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

سحر: ابني يزداد تشوهاً يوماً بعد الآخر ولم يتم تحديد العلاج حتى الآن

الشرقاوى: فقدت طفلين وأعانى مع طفلين آخرين لعلاجهما

أطباء الوراثة: مراكز علاج الأمراض الوراثية النادرة لا تتناسب مع عدد المصابين

جامعتان فقط بمصر تمنحان الدكتوراه عن أمراض الوراثة ودول عربية سبقتنا فى هذا المجال

ملائكة تفتحت أعينهم على الشقاء، ذاقوا الألم باكرا، قضوا أيامهم الأولى بين المستشفيات والمعامل والحضانات بدلا من أن ينعموا بأحضان والديهم، حاصرهم الحرمان منذ الولادة، فحرموا من ألبان أمهاتهم، ثم حرموا  من معظم الأطعمة، إنه وجع مشترك بين رضيع يتضور جوعا وأم  إن أطعمته سيموت!

هذا باختصار معاناة الأطفال مرضى التمثيل الغذائي الذي لا يتطلب علاجا دوائيا بقدر الحاجة إلى حمية غذائية دقيقة تعتمد على ألبان مصنوعة لهم خصيصا بطريقة معينة.

وبحسب تقارير منظمة الصحة العالمية فإن مرض التمثيل الغذائي يصيب طفلًا واحدًا من كل ١٠ آلاف مولود، حيث يكون الجين المتنحى الذي يحمله الأبوان حتى الدرجة الرابعة هو المحور الرئيسي في الإصابة بأمراض التمثيل الغذائي.

«بوابة أخبار اليوم» في تحقيقها تكشف عن معاناة الأطفال مرضى التمثيل الغذائي وتعرض مآسي الآباء في علاج أطفالهم وفى الحصول على أغذيتهم.

لمن لا يعرف أمراض التمثيل الغذائي هي أمراض وراثية جينية، تنتقل إلى الأطفال من الأبوين ويسبب هذا المرض العديد من الأعراض منها التشنجات والقيء المستمر والحمى وصعوبة التنفس واصفرار لون الجلد وارتخاء العضلات وتضخم الكبد والطحال والتخلف العقلي، هذا بالإضافة إلى نقص المناعة الناتجة عن عدم قابلية الجسم لأي نوع من البروتينات أو الدهون أو الفيتامينات الموجودة في الأغذية المختلفة، وبالتالي فإن عدم حصول الأطفال على اللبن والطعام المحدد للمرض يعرضهم لخطر الموت.

جولتنا كانت من مستشفى الدمرداش الذي يضم وحدة لعلاج الأمراض الوراثية التي يعد مرض التمثيل الغذائي هو أحداهم أنواعها وأخطرها،  فضلا عن أن ذلك المرض  يندرج تحته أكثر من خمسين نوعا تختلف أعراضها وأشكالها.

لا نعلم كيف يمكننا بالكلمات أن نصف كم الوجع والأسى الذي يرتسم على وجوه الآباء الجالسين على مقاعد الوحدة،  يحتضن كل منهم رضيعه، ينظر إليه بحب ممزوج بالشفقة، على يسار الجالسين غرفة صغيرة مغلقة، هي غرفة الفحص،  يتسابق الزائرون على دخولها، تحدد الممرضة الموجودة أمام الغرفة أولوية الدخول بالدور،  ينتابك الشعور بالارتباك في المكان،  فكل من يدخل تشعر بأنه تائه لا يدرك ماذا يريد،  حتى انك قد تصادف نفس الشخص وهو يحمل رضيعه أربع او خمس نوبات في أماكن متفرقة من المستشفي.

اقتربنا من المرضى وحاولنا أن نشاركهم الانتظار  فكانت احدهم تحمل رضيعا عمره ايام سألناها عن حالته فأجابت،  وضعت مولودي منذ أسبوعين، ومنذ أن وضعته وكلما قمت بإرضاعه تقيأ بشدة، وحين استشرت الطبيب اخبرني انه أمر طبيعي وان العديد من الأطفال تنتابهم هذه الحالة حتى تتهيأ معدتهم لاستقبال لبن الأم،  ولكن الأمر لم يكن طبيعيا،  فقد انقلب التقيؤ إلى تشنجات حتى يغيب عن الوعي، فذهبت لطبيب آخر اخبرني أن طفلي يحمل احد الأمراض الوراثية لن يتبين نوعه إلا بالفحص، وحينها ذهبت لعمل الفحوصات الخاصة بالأمراض الوراثية وعلمت أن صغيري يحمل مرضا يعرف بالتمثيل الغذائي، وأن هذا المرض حسب وصف الطبيبة يجعل جسده يرفض الطعام عدا ألبان معينة صنعت خصيصا لمثل حالته، ولكنني احصل على هذا اللبن بصعوبة شديدة واشعر أن نوبات التشنج تزداد عنده مما يعنى ان حالته تسوء، ولكني لا أدري ماذا أفعل.

جلس احمد إسماعيل يحتضن رضيعه ويحاول إطعامه باللبن الصناعي، فروى لنا مأساته قائلا: «لقد أصيبت زوجتي بتسمم الحمل قبل ولادتها بساعات، مما أدى إلى أن يولد الطفل يعانى منذ لحظاته الأولي،  فبعد أن ولد اخبرنا الطبيب أن الطفل مصاب بتسمم في الدم، ويحتاج إلى تغيير دم كامل، وهو ما حدث بالفعل، ثم قضى طفلي أكثر من 15 يوما بالحضانة تحت الملاحظة الدقيقة، وبعدها خرج ولكن الطفل كان يبدو غير طبيعي".

وأكمل: "بدأنا نتردد على الطبيب من جديد، وحينها اخبرنا أن ما يحدث للطفل ليس بسبب تسمم الدم ولكنها أعراض مرض وراثي يصعب التعرف عليه، حيث تتشابه الأعراض، فبدأنا نتردد على وحدة الأمراض الوراثية منذ أسبوع، وحتى الآن لم يخبرونا ما المرض الذي يحمله الطفل، حتى كلام الأطباء يصعب علينا فهمه،  ولم نسمع طيلة حياتنا عن مرض بهذه الأعراض،  وهو ما زاد القلق وصعوبة التعامل مع الطفل.

تشوه شديد

 ياسر عرفة هو الحالة الأصعب بين الحالات، فهو طفل لم يكمل عامه الأول، بدا على جسده التشوه الشديد، حتى أن ملامحه كادت تختفي، تبدو أطراف الطفل كأطراف الحيوانات، وترتفع أذانه عن وجهيه بشكل كبير، كما تبرز خلفها دوائر متضخمة لا تعرف مصدرها، كما يرتفع فكه الأعلى كثيرا، سألنا والدة الطفل عن حالته، فأخبرتنا انه كل شهر يتغير شكله بهذه الطريقة، وتتحول أطرافه، وتكبر أجزاء في جسده عن أجزاء أخرى، كما أنه ينزف دما من كل مخارج جسده.

وتضيف الأم أن الطفل يأكل بشكل طبيعي، لكنه لا يضحك ولا يلعب ولا يمشى ولا يصدر صوتا طبيعيا، الأمر الذي احتار فيه الأطباء، فقد اجتمعوا على انه يعانى من مرض وراثي، ولكنهم لا يعرفون وصفه بالضبط، ثم تحشرج صوت الأم قائلة: « لا أدري ما مصير هذا الصغير فقد يتمزق قلبي كلما نظرت له، ولا أدري أي علاج هذا الذي يعيد لي طفلي طبيعيا مثل بقية الأطفال".

رحلة معاناة

أما محمد الشرقاوي فمعاناته ممتدة على مدار 8 أعوام، فشاءت الأقدار أن يعانى مع أطفاله من أمراض وراثية نادرة، فيقول تزوجت من ابنة خالتي منذ أعوام ومنذ اللحظة الأولى التي علمت بها بحملها وكانت الفرحة تمتلكني إلا أنه وبعد ولادة الطفل الأول وخلال تجهيزنا للسبوع توفى فجأة دون أي مقدمات مما كان له أثره البالغ علينا.

ويضيف الشرقاوي أنه بعد عام واحد رُزق وزوجته بطفل جديد إلا أن الأطباء أكدوا أنه غير طبيعى وأن هناك أمرا ما به، وقبل أن يبدأ الفحوصات توفى على الفور، ومن هنا بدأت رحلة البحث عن الأسباب، فأكد لهم الطبيب أن الوفاة كانت نتيجة مرض وراثي، فتوجه محمد وزوجته لعمل «ربط رحم» حتى يتمكنوا من ولادة طفل طبيعي، وبعد عام ونصف ومرحلة حمل صعبة رزق الزوجان بطفلة اسموها «لجين»  ودعوا الله ألا يكون مصيرها كأخوتها السابقين إلا أن القدر كان له مخطط آخر.

فرحة ناقصة

كانت فرحة الشرقاوي هذه الآونة غير مكتملة فمع تفاؤل الأسرة باستمرار الطفلة على قيد الحياة إلا أن الطبيب  طلب منهم الذهاب إلى مركز بحوث وعلاج الأمراض الوراثية بمستشفى الدمرداش، وأكد لهم أن الطفلة تعانى خلل ما، خاصة مع وفاة طفلين من قبل والذي كان سببه مرض وراثي يرجع أولا إلى صلة القرابة الكبيرة بين الزوجين، وبالفعل اكتشف الزوجان أن الطفلة بها تأخر عقلي أدى إلى حدوث عرقلة في النطق بشكل كبير والذي أكد الأطباء لهم أنه سيستمر معها مدى الحياة كأي مرض وراثي لا يمكن علاجه بالعقاقير.

مع كل ما حدث لم يستسلم الزوجان فقررا الحصول على طفل آخر لعله هذه المرة يأتي سليماً وهو ما حدث بالفعل فرزقوا بفرح التي تبلغ اليوم 4 أعوام، ولم تعان من أي مشكلة صحية أو بدنية، فتشجعوا ليعوضوا أطفالهم الثلاثة وقررا التجربة للمرة الخامسة، وهنا كانت الصدمة الكبرى.

خلل وراثي

يقول الشرقاوي: ولدت زوجتي طفلنا الخامس وكنا على أمل أن يكون طبيعيا كأخته السابقة له فتوقعنا أن يكون الخلل الوراثي انتهى مع تكرار عمليات الولادة، وبالفعل رزقت بطفل سليم معافى بدنيا إلا أن الطبيب أخبرني أن أصبعه الكبير حجمه غير طبيعي وبعد معرفة تاريخ الأسرة مع أمراض الوراثة، نصحني بالذهاب لمركز الأمراض الوراثية لعمل الفحوصات وأجرينا أشعة على البطن والمخ والقلب و تحاليل أخري، فقال لنا الطبيب أنه يعانى من مرض نادر فالمنطقة بين الفص الأيمن والأيسر بالمخ غير مكتملة وأنه مرض سيستمر معه مدى الحياة لتبدأ معاناتنا مرة ثانية.

ويوضح أنهم يتوجهون بالطفل 3 مرات أسبوعيا لمركز الأمراض الوراثية بالدمرداش وفى أغلب الأحيان يتم نقله فورا للعناية المركزة، ناهيك عن الفحوصات المستمرة، مما دفعه إلى ترك عمله للتفرغ لعلاج طفله، ويضيف أكثر ما أرهقني هو التكلفة المادية فله لبن مخصص يصل سعره ل 200 جنيه ولا يكمل معنا أيام بأقصى تقدير بعد ان منعته الطبيبة من الرضاعة الطبيعية كما أن تكلفة العناية المركزة وأسعار الفحوصات والتحاليل بالفعل تشكل عبئا كبيرا.

وفي النهاية قال محمد وهو ينظر لطفله نظرة تملؤها رأفة يشوبها حزن كبير، قائلا: "لو كانوا من زمان من أول طفل فهمونا انه مرض وراثي أو حتى وعونا أزاي نتصرف من أول الحمل لحد الولادة مكانش ده بقى حالي، طبعا الحمد لله على كل شيء بس أنا عمري ما سمعت عن الأمراض دي وكان المفروض على الأقل الدولة توعينا سواء فى التلفزيون او حتى فى الوحدات الصحية عن الأمراض دي وإزاي نتعامل معاها من أول لحظة.

أسباب مختلفة

عقب الانتهاء من جولتنا توجهنا إلى المتخصصين لمعرفة أكثر حول تلك الأمراض الوراثية التي بدت لنا كلغز كبير مع تنوع الأعراض والعلاج والحالات التي رصدناها.

في البداية تقول د.هبة الله حسني، استشاري أمراض الوراثة، أن الأمراض الوراثية ليس بالضرورة أن يكون المصاب بها قد ورثها عن أقاربه، لكن في بعض الحالات من الممكن أن تكون طفرة تحدث بشكل مفاجئ للمولود دون أي سجل وراثي يذكر، فزواج الأقارب له دور كبير في انتشار مثل تلك الأمراض، كما أن كبر سن الأم أو الأب يعد عاملاً مهماً، ومع ذلك لم يتوصل العلم إلى سبب مؤكد وجذري حول حدوث هذه الأمراض الوراثية.

وتضيف أنه بالرغم من انتشار الحالات المصابة بهذه الأمراض بشكل كبير وواضح، إلا أن المشكلة هنا هي عدم توفير العدد الكافي من المراكز المتخصصة أو عيادات الاستشارات الوراثية لمثل تلك الأمراض بمصر، وهو ما سبقتنا به دول كثيرة على مستوى العالم، فكل مرض له مراكز متخصصة مثل مراكز الأمراض الوراثية الخاصة بالأورام أو الباطنة أو الأعصاب وهكذا، وهو أمر هام على وزارة الصحة أو البحث العلمي النظر له.

متطلبات مهمة

توضح د.هبة أن مجال أمراض الوراثة بمصر في حاجة إلى متطلبات كثيرة حتى تحدث طفرة تتناسب مع أهمية هذه الأمراض، وأولها أن بحوث «الجينوم» تحتاج وبشدة تسليط البحث العلمي عليها، بجانب مراعاة مبدأ التخصص والنهوض به، فالطبيب يباشر الحالة من وجهة نظره دون اللجوء إلى استشاري أمراض وراثية متخصص وهو أمر يعرقل علاج الحالات، فالمرضى يحتاجون إلى رعاية صحية متكاملة، وهو ما يوفر في النهاية على المريض تكلفة فحوصات وأشعة وتحاليل ويوفر على الدولة أيضا هدر طاقاتها.

وتشير إلى أنه حان الوقت لأن يكون هناك فرق بحثية متخصصة بأمراض الوراثة داخل كل مستشفى متخصص، وهو ما يحدث مثلا في مستشفى 57 فلديها فريق لأمراض الوراثة الخاصة بالأورام، وهو أيضا ما يجب تكراره في مراكز ومستشفيات العظام والكبد والصدر والقلب وغيرها.

أما الأمر الأكثر أهمية هو الاهتمام من البداية بهذا التخصص بدءاً من كليات الطب، موضحة أنه لا يوجد سوى جامعتين فقط على مستوى مصر تمنحان دكتوراه وراثة وهى جامعة عين شمس وتليها جامعة الإسكندرية التي تمنح الـ «PHD» فى هذا التخصص.

وأنهت د. هبة حديثها قائلة: علينا أن نسلط الضوء في الإعلام على حاجتنا للعيادات المتخصصة لهذه الأمراض، وعلى التعليم العالي البدء بتوفير كوادر مناسبة، فدول مثل السعودية التفتت إلى كثرة هذه الأمراض وبدأت في عمل زمالات مع كليات بأمريكا وانجلترا في بحوث الوراثة لتخرج أطباء يكونون بمثابة نواة لبحوث الوراثة وعلاج الأمراض المتعلقة به.