ورقة وقلم

ياسر رزق يكتب: قطوف من سيرة 30 يونيو

ياسر رزق
ياسر رزق

كلما حل يوم الثلاثين من يونيو في كل عام، يقتحم وجداني نسيم رطب، يبدد وحشة الزمن وقسوة بعاد الأيام الحلوة.

 

تتداعى إلى خاطري الذكريات، أخرجها من مكمنها، أمسح عليها بأناملي، وأشتم عبيرها القوي الأخاذ الذي لا يتبدد. يدب في قلبي الحنين إلى ذلك اليوم الفاصل وينساب الشجن مغموساً في أحاسيس الفخر بمسيرة النضال التي مهدت إلى يوم الثلاثين من يونيو 2013، وملحمة التضحيات التي حررت مصر من قيود إسار دامت عاما واحدا، وكان مقدراً لها أن تستمر قروناً!

 

أملأ قلمي بمداد ذكريات لا تجف، يفوح منها عطر العزة، أكتب ما تيسر لي منها، حتى لا أنسى ولا تنسوا، فلقد كان من حظي أن أعيش في قلب الأحداث منذ الخامس والعشرين من يناير 2011، وحتى الثلاثين من يونيو 2013، وما بعدها حتى هذه اللحظة، شاهداً رأى العين، أو مستمعاً لراوية هو صانع الحدث.

 

راودتني وأنا أشرع في الكتابة عن العيد السادس لثورة الثلاثين من يونيو، ذكرى مقال أضعه في صدارة ما أعتز به في حياتي الصحفية، كتبته بعد مرور أقل من 5 أسابيع على تولي الراحل الدكتور محمد مرسي منصب الرئيس، وكان بعنوان «جملة اعتراضية في تاريخ الوطن»، وفيه قلت بالحرف: «الأيام دول، والسلطة دوارة بين حكومات وأشخاص، بعضها يطول عمره وبعضها يقصر، وبعضها لا يعدو أن يكون جملة اعتراضية في تاريخ الوطن».

 

وتنبأت في المقال الذي كتبته يوم 6 أغسطس 2012، قبل يومين من عزلي من رئاسة تحرير جريدة «الأخبار» بقرار من مرشد الإخوان ونائبه، بألا يزيد عمر حكم الجماعة لمصر على عام واحد.

 

مثلما تنبأت في مقال كتبته يوم 11 مارس 2013 أثناء مهجري الصحفي رئيساً لتحرير «المصري اليوم» بعنوان «متى ينزل الجيش؟» بسقوط نظام الإخوان في غضون أسابيع بعد خروج شعبي هادر وعارم ومساندة لا تلين من الجيش.

 

وقلت فيه بالحرف: «أكاد أرى فيما يرى اليقظان، وهج انفجار لتفاعل متسلسل، يشعل فتائله نظام حكم بائس، كفيف في رؤاه، عنين في تفكيره، قعيد عن النهوض بواجباته، أصم لا يسمع أجراس خطر تدق، وهو يندفع بالوطن اندفاعاً على طريق الهلاك».

 

أسطر في كل ذكرى بعضاً مما عرفت، واليوم أكتب قطوفاً من مشاهد، إلى حين يأتي يوم قريب، أسطر فيه كل ما عرفت أو ما استطعت إليه سبيلا..!

 

 

«1»

 

يوم الثلاثاء 11 ديسمبر 2012، اتصلت بالفريق أول عبدالفتاح السيسي القائد العام للقوات المسلحة في مكتبه، أسأله عن أسباب دعوته إلى عقد لقاء في اليوم التالي بالقرية الأوليمبية للدفاع الجوي في التجمع الخامس يجمع الرئيس مرسي بالقوى السياسية والشخصيات العامة.

 

وكان مرسي قد أصدر قبلها بثلاثة أيام إعلانا دستوريا معدلاً حاول من خلاله الالتفاف على أزمة الإعلان الدستوري الذي أفقده ثقة الشعب المصري وقواه السياسية -عدا جماعة الإخوان- وأيقن الجميع بعد صدور الإعلان المعدل أن الإخوان ماضون في مخططهم الرامي إلى تمكين الجماعة وأخونة مؤسسات الدولة.

 

<<<

 

جاءني صوت الفريق أول السيسي هادئاً واثقاً، وهو يرد على أسئلتي بشرح واستفاضة، وكان قبلها بليلة قد التقى وقيادات الجيش، مع وزير الداخلية اللواء أحمد جمال الدين وقيادات الشرطة في جلسة ودية انتهت بلقطات فوتوغرافية تجمع وزيري الدفاع والداخلية يرفعان ذراعيهما المتشابكين، في إشارة لتضامن الجيش والشرطة ووحدة موقفهما.

 

قال لي السيسي: هناك أزمة سياسية طاحنة تمر بها البلاد، ونذر تنبئ بما هو أسوأ، ولا يبدو كل طرف، سواء في الحكم أو داخل القوى السياسية، راغباً في قطع منتصف الطريق نحو الآخر، ووجدت من واجب القوات المسلحة كمؤسسة وطنية تتمتع باحترام الجميع، أن تبادر لتهدئة الاحتقان وتنقية الأجواء، وأن تدعو إلى هذا اللقاء تحت مظلتها التي يحتمي بها الكل.

 

فهمت من كلام السيسي أنه يخشى من أن الخلاف بين الرئاسة والقوى السياسية قد يستدرج القوات المسلحة إلى الدخول في معترك الصراع السياسي وكان هو لا يريد للجيش أن يتورط ولا للدولة أن تخسر من جراء هذا الخلاف.

 

بعد مكالمة السيسي، أخذت أكتب قصة إخبارية أنفرد بها عن أسرار اللقاء المرتقب في التجمع الخامس قبل 3 أيام من إجراء الاستفتاء المنتظر على الدستور، واخترت المانشيت الرئيسي للصفحة الأولى في الجريدة «المصري اليوم»: «السيسي يأخذ زمام المبادرة».


لكن في اليوم التالي.. وقبيل سويعات من انعقاد اللقاء، فوجئت بتصريحات غريبة صادرة عن رئاسة الجمهورية تتنصل من اللقاء وتعلن عن إلغائه.

 

الحقيقة أنني كنت أرى أن مبادرة السيسي لا يستحقها نظام الإخوان ومندوب الجماعة برئاسة الجمهورية «محمد مرسى».

 

وحاولت أن أتقصى أسرار الساعات التي فصلت بين إطلاق المبادرة وإلغاء اللقاء، لكنني لم أتمكن، ولم تكن اللقاءات التي جمعتني مع الفريق أول السيسي حتى قيام ثورة 30 يونيو تسمح باستفسارات عن وقائع مضت، بقدر ما هى فرصة للحديث عن توقعات أحداث آتية!

 

<<<

 

بالفعل.. بعد مضي ثلاثة أسابيع على قيام ثورة 30 يونيو، سألت السيسي عما جرى في ذلك الحين وهل فاجأ مرسى بإطلاق المبادرة؟

 

أجاب قائلا: قبل أن أعلن عن المبادرة، اتصلت بمكتب الدكتور مرسي ورد على الدكتور أحمد عبدالعاطي مدير المكتب، وطلبت منه أن يعرض دعوة القوات المسلحة للحوار عليه، فاستحسن الفكرة وقلت: «اعرض عليه وخليه يكلمني».

 

وأضاف السيسي: بالفعل.. اتصل بي الدكتور مرسي وقال: الفكرة رائعة. وسألته: نتحرك لتنفيذها؟. قال: تحركوا.

 

وفعلا دَعَوْنا الحضور من القوى السياسية والشخصيات العامة، لكن فوجئت بإلغاء الدعوة.

 

ويضيف السيسي قائلا: «علمت أن هناك أناساً اتصلوا بالدكتور محمد مرسي وخوفوه من الفكرة، ودفعوه لإلغاء اللقاء، وهذا النمط ظل قائما إزاء أي جهد أو نصيحة حتى ثورة 30 يونيو، وهؤلاء الناس هم أنفسهم الذين أشاروا إلى تنظيم اعتصام رابعة واستمراره بعد 3 يوليو».

 

.. بدا لي من إلغاء لقاء التجمع الخامس وتجاهل مبادرة الجيش، أن نظام مرسي قد أهدر طوق النجاة الذي ألقاه له السيسي للخلاص من دوامات الصراع المغرقة في بحر السياسة الهائج.

 

 

«2»

 

منذ 68 شهراً.. سألت الفريق أول السيسي عن اليوم الذي أيقن فيه أنه لا أمل في انصلاح حال مرسي ولا إصلاح نظامه.

 

قال لي: كان ذلك في فبراير عام 2013، قبيل أكثر من 4 شهور من قيام ثورة 30 يونيو.

 

<<<

 

كما أسلفت كان ختام عام 2012 هو إهدار فرصة النجاة لمرسي ونظامه من دوامة الصراع مع القوى السياسية، ثم جاء عام 2013، ليحمل شرر القطيعة التامة مع كل فئات ومكونات الشعب، وتفاقمت الاحتجاجات الشعبية ضد نظام مرسي وأسفرت عن سقوط 52 قتيلاً، ثم إعلان حظر التجوال في منطقة القناة، وهو قرار أثار من السخرية أكثر مما أثار من الغضب.

 

ومع نهاية شهر يناير.. حذر السيسي في لقاء مع طلبة الكلية الحربية من أن استمرار صراع القوى السياسية حول إدارة شئون البلاد قد يؤدي إلى انهيار الدولة.

 

وفى اليوم التالي.. طلب خيرت الشاطر نائب المرشد العام لجماعة الإخوان من اللواء محمود حجازي مدير المخابرات الحربية أن يشرب معه فنجان قهوة «في مكتبه بمقر القيادة المشتركة».

 

وذهب خيرت في الموعد المحدد إلى مكتب اللواء حجازي، ليجد الجالس إلى المكتب الفريق أول السيسي نفسه، فامتقع وجهه، وطلب له السيسي فنجان القهوة، وقال: اشرب قهوتك واتفضل «اتوكل على الله»!

 

<<<

 

وسط تلك الأجواء الملبدة بالغيوم، انتوى السيسي أمراً، مهما كلفه من ثمن حتى لو كان منصبه، هو أن يصارح رئيس الجمهورية بما يعتمل في صدره إزاء النظام ومستقبله ومخاطره على البلاد.

 

كان السيسي لا يخشى أن يفقد منصبه، فكرامة الموقف أعز من تشريف المنصب، وكان يؤمن إيمانا لا يتزعزع بأنه لو كان قدر الله أن يترك منصبه، فلن يبقيه كتمان شهادة، ولو كان القدر أن يبقى في المنصب، فلن يعزله منه الإفصاح عن كلمة حق.

 

وكان السيسي يثق - كما قال لي ولعدد من زملائي قبيل إعلان اعتزامه الترشح لرئاسة الجمهورية - أنه لو ترك منصبه، فإن زملاءه في هيئة القيادة، سواء الفريق صدقي صبحي رئيس الأركان، أو قادة الأفرع الرئيسية، سيكون لهم نفس موقفه تجاه الجيش وإرادة الشعب.

 

<<<

 

طلب السيسي في ذلك اليوم من أيام شهر فبراير 2013 لقاء الدكتور محمد مرسي، وذهب إليه، وقال له بكل وضوح وبالحرف الواحد: «لقد فشلتم وانتهى مشروعكم. إن حجم الصد تجاهكم في نفوس المصريين لم يستطع أي نظام سابق أن يصل إليه في سنين طويلة. أنتم وصلتم إليه في 8 شهور». 

 

«3»

 

الشهور الثلاثة الأخيرة من عمر نظام الإخوان، تستحق سلسلة مؤلفات، لا مجرد فقرة في مقال، بالأخص الاجتماع الأخير في وزارة الدفاع لمرسي مع أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم 12 إبريل، كذلك لقاء السيسي التاريخي مع الشخصيات العامة على هامش تفتيش الحرب للفرقة التاسعة المدرعة بدهشور يوم 11 مايو. أما الأيام العشرة الأواخر لنظام الإخوان من يوم 23 يونيو وحتى 3 يوليو 2013 فإن ما روى عنها أقل بكثير مما حدث بالفعل سواء في التفاصيل أو في سخونة الوقائع.

 

<<<

 

خلال لقاءات جمعتني بالفريق أول عبدالفتاح السيسي في أعقاب ثورة 30 يونيو معظمها لم يكن للنشر، وخلال لقاءات مع الرئيس السيسي بعضها لم يكن للنشر، سألته عن مهلة الأيام السبعة التي أعلن عنها لحل الخلافات بين النظام والقوى السياسية.. فقال إن الذي يخطط لانقلاب لا يعلن عن مهلة ويحدد أيامها. وأضاف أنه كان يأمل أن يستجيب النظام حتى اللحظة الأخيرة لمطالب الشعب قبل قيام ثورة 30 يونيو.

 

وسألته: متى قلت.. «مفيش فايدة»؟    

 

قال: كان ذلك مساء يوم 26 يونيو، بعدما ألقى الدكتور مرسي خطابه العام الأخير.. وقتها قلت لنفسي: «مفيش فايدة.. همه كده بيهددوا الشعب». وأدركت أن اللحظة الحاسمة ستكون هى الثلاثين من يونيو.

 

قلت له: لماذا إذن لم تعلن عن إجراء يوم نهاية المهلة وهو الثلاثين من يونيو، ثم مددت المهلة في اليوم التالي 48 ساعة أخرى حتى الثالث من يوليو؟

 

قال: كان الهدف هو إعطاء المزيد من الوقت للتواصل الجاد بين الأطراف، وعدم التعجل في اتخاذ القرارات.

 

وروى لي السيسي أنه قرأ البيان الثاني الخاص بمهلة الـ48 ساعة على الدكتور محمد مرسي قبيل دخولهما إلى اجتماع مشترك وإذاعة البيان عبر التليفزيون، يوم الأول من يوليو.

 

وكان اللقاء الأخير بينهما في اليوم التالي 2 يوليو أي قبيل 24 ساعة من إعلان بيان الثالث من يوليو.

 

حتى اللحظات الأخيرة قبيل إعلان بيان تدخل الجيش لإنفاذ إرادة الشعب، كان السيسي يسعى عن طريق 3 وسطاء هم الدكتور أحمد فهمي رئيس مجلس الشورى الأسبق وصهر الدكتور مرسي والدكتور هشام قنديل - رئيس الوزراء وقتها- والدكتور محمد سليم العوا، لمحاولة إقناع مرسي بالموافقة على إجراء استفتاء مبكر على رئاسته.

 

وأذكر أنني سألت الفريق أول السيسي.. ماذا لو وافق مرسي على إجراء الاستفتاء يوم 3 يوليو، بينما كانت مطالب الشعب قد تجاوزت ذلك ولم تكن الجماهير منذ الثلاثين من يوليو تقبل بأقل من رحيل مرسي ونظام الإخوان برمته؟.

 

ورد عليّ بوضوح وثقة: لو كان ذلك حدث، كنت أستطيع إقناع الشعب بالقبول.

 

<<<

 

لم يكن ثمة مفر من تدخل الجيش يوم الثالث من يوليو، للاستجابة لمطالب الشعب، ليس فقط من منطلق إنفاذ إرادة الجماهير التي لا ترد، وإنما لأن تقديرات المؤسسة العسكرية وقائدها كانت تقول: إن الحرب الأهلية ستندلع في غضون شهرين، لو تركت الأمور على حالها، ولو وصلنا إلى مرحلة الاقتتال الأهلي، فلن يستطيع الجيش أن يقف أمامها أو أن يحول دون تداعياتها، وستكون خارج قدرته على السيطرة.

 

.. في جملة واحدة، لولا ثورة الثلاثين من يونيو وقرارات الثالث من يوليو، ما صارت مصر التي نعرفها ونلمسها اليوم، بل ما كانت مصر.

 

حفظ الله مصر وشعبها وجيشها وقائدها.. وكل 30 يونيو ومصر بخير وسلام وعزة.