«الشعراوي .. إمام الوسطية».. بقلم أحمد بيبرس

الدكتور أحمد بيبرس
الدكتور أحمد بيبرس

كتب/ الدكتور أحمد محمد بيبرس

عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر

من فينة لأخرى يرمي المبغضون العلماءَ المصلحينَ بالرجعية مرة، ومناهضة العلم أخرى، والتطرف ثالثة، أناس سود الأكباد، سودوا بكلامهم القلوب قبل الأوراق، اعتمدوا على آراء سمجة، منقادون لأهواء متشعبة، منشرحون لما تؤول إليه أمور الناس من هدم الرموز الدينية كـ «إمام الدعاة الشيخ الشعراوي» وغيره، قصدهم الاختلاف والتنازع، ليفضي حال الناس إلى التباين معهم والتقاطع، لكن ما فعله هؤلاء من المشي بالنَّمِيمة بين رموز التجديد وبين الناس كان له أثر في إلقاء العَدَاوة وتهييج نارَها كـ«سَيْلٍ بِدِمْنٍ دَبَّ فِي ظَلامِ»، لكن خيب الله ظنونهم فكانوا بما فعلوه كما قالت العرب، وأقره القرآن: «أخْسَرُ مِنْ حَمَّالَةِ الْحَطَبِ» [مجمع الأمثال ص 256].

 

ولو تصور المتحاملون علي «إمام الدعاة» أن الشيخ أسس أنموذجا فريدا للتجديد والوسطية ظهر متواترا في خواطره حول كتاب الله، بلغ حدا حتى ليمكننا أن نقول: «الوسطية منبعها ما قاله الشعراويّ» على غرار من قال: « لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا عليّ»، وكما قالت العرب: فلان في إقدام عمرو أي: في شجاعته، وفي سماحة حاتم الطائي، وفي حلم الأحنف بن قيس، وفي ذكاء إياس، وأنا أقول: وفي وسطية الشعراوي.

 

ومواقف الشيخ -رحمه الله- كلها مواقف مشرفة لا يغفلها من عرف سيرته، وسمع حديثه، وما أفاض الله عليه به من النور، حتى لم نشاهد ولم نسمع أحدا حتى الآن قدّم هذه المعاني بهذا الأسلوب الذي قدمه الشيخ الشعراوي من مزاوجة بين المعاني والأفكار الدقيقة بأسلوب يفهمه البسطاء من العوام قبل أهل الفكر من الراسخين في العلم، وليت هؤلاء أذعنوا للحق وتصفحوا ما أفاض به علم الشيخ من خواطره، ليكفوا أفواههم عن القدح والتقصير، ولكن أهملوا ذلك فضلوا وأضلوا.

 

فمن فريتهم أنهم رموا الشيخ – رحمه الله- برفضه لقضية الوطن، وأنه يعادي مسألة تحييز الأرض لكن الحقيقة المتواترة في منهجه أنه أقر قضية الوطن والوطنية، وقد تكرر ذلك منه في غير موضع، فتراه في خواطره حول قول الله سبحانه: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} [التوبة: 25] يقرر ذلك فيقول: تلفتنا الآية أن النصر يكون من عند الله وحده، والدليل على أن النصر من عند الله أنه سبحانه قد نصر رسوله والذين معه في مواطن كثيرة، ومَوَاطِنَ جمع «موطن» والموطن هو: ما استوطنت فيه، وكل الناس مستوطنون في الأرض، وكل جماعة منا تُحيز مكاناً من الأرض ليكون وطناً لها، والوطن: «مكان محدد نعيش فيه، من الوطن العام الذي هو الأرض»؛ لأن الأرض موطن البشرية كلها، ولكن الناس موزعون عليها، وكل جماعة منهم تحيا في حيز تروح عليه وتغدو إليه وتقيم فيه.[ تفسير الشعراوي 8/ 4993].

 

 

ويتكرر أيضا في خواطره حول قول الله سبحانه: {أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 87]، يقول: نفهم منه أن التبؤُ هو اتخاذ مكان يعتبر مباءةً؛ أي: مرجعا يبوء الإنسان إليه، التبؤُّ إذن هو التوطن في مكان ما، والإنسان إذا اتخذ مكاناً كوطن له فهو يعود إليه إن ذهب إلى أي بلد لفترة، ويعتبر الخروج من الوطن مجرد رحلة تقتضي العودة.[ تفسير الشعراوي 10/ 6161]، وذلك متكرر في خواطره حتى بلغ مبلغ التواتر، ولولا خشية التطويل لكتبت من كلامه ما يسود به صحراء مصر. 

يامن رميت الشيخ بالفكر المتطرف لم تقرأ ما كتبه الشيخ في خواطره حول قول الله سبحانه: {كانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213] فيقرر -رحمه الله- مبدأ الوسطية فيقول: "نحن نفهم أن الله شاء بالإسلام حياة القيم، كما شاء بالماء حياة المادة، والماء حتى يظل ماء فلا بد أن يظل بلا طعم ولا لون ولا رائحة، فإذا أردت أن تجعل له طعماً خرج عن خاصيته؛ ربما أصبح مشروبا أو عصيراً أو غير ذلك، وقد يحب بعض الناس نوعا من العصير، لكن كل الناس يحبون الماء؛ لأن به تُصان الحياة، فإذا رأيت ديناً قد تلون بجماعة أو بهيئة أو بشكل فاعلم أن ذلك خارج عن نطاق الإسلام. وكل جماعة تريد أن تصبغ دين الله بلون إنما يخرجونه عن طبيعته الأصلية، ولذلك نجد أمتنا في مصر قد صانت علوم الإسلام بالأزهر الشريف، وكل عالم من علماء الإسلام في أي بقعة من بقاع الأرض مدين للأزهر الشريف. ونجد أننا نحب آل بيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكن لا نجد عندنا متشيعا واحدا، وفي الوقت نفسه لا نجد واحداً يكره أبا بكر وعمر، وهذا هو الإسلام الذي لا يتلون؛ لأنه إسلام الفطرة، {صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً} [البقرة: 138]، فالذين يحاولون في زمان من الأزمنة أن يصبغوا الدين بشكل، أو بطقوس، أو بلون، أو برسوم، أو هيئة خاصة نقول لهم: أنتم تريدون أن تُخرجوا الإسلام عن عموميته الفطرية التي أرادها الله له، ولابد أن تقفوا عند حد الفطرة الإسلامية، ولا تلونوا الإسلام هذا التلوين، وبذلك نحقق قول الله: {فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213].

وأقول لهذا القادح المتعصب نحن والحمد لله نؤمن بأن علماء الأزهر ومنهم «الشيخ الشعراوي» قد أفاضوا على الناس بوسطية قوّت عند الناس صحيح الدين الحنيف، وجعلت سلوك الناس يتطابق مع ما وجّه إليه القرآن الكريم، وطبقه النبي على أرض الواقع، لا أن يكون دين الناس مجرد هرطقات وفرى يرمى بها الصالحون كما هو الحال.

 

وأوجه كلامي لمن رمى الشيخ بالتطرف وأقول له: أخاف عليك من إضلالك واتهامك فلحوم العلماء مسمومة، فلا تكن ممن قال الله فيهم: }وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82].

 

وأخاف عليك أن تكون من المقتسمين، المعنيين بقول الله سبحانه: {كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ(90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ(91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الحجر: 90-93]وهم: الذين يأخذون أسوء ما في الكلام ويتركون أحسن ما فيه، هدانا الله وإياك إلي الطريق المستقيم، وردنا وإياك إلى الحق القويم.

 

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد المتوج بتاج وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم.