حوار| شاعر «الأسئلة الخضراء»: صورة أمى لا تفارقنى

الجد والحفيد.. تواصل أجيال
الجد والحفيد.. تواصل أجيال

وجدان الشاعر كيف يتشكل، وأخيلته السابحة فى الآفاق كيف تتكون وتتخذ هيئتها المجنحة المدهشة، وتمتلك قدرتها المحلقة؟ وهذا الشعور المرهف والإحساس الراقى الرقيق، ما الطريق إلى اكتسابه؟ والتمتع ببهائه؟

أسئلة لا يستطيع أن يجيب عنها سوى شاعر فذ صاحب تجربة إبداعية مرموقة، وشاعرنا الكبير محمد إبراهيم أبو سنة الذى يحتفل هذه الأيام بعيد ميلاده الـ ٨٢ أحد هؤلاء البارزين المجنحين فى آفاق الشعر العربى، وهو أيضا صاحب الأسئلة الخضراء.. عنوان ديوانه الشهير الذى حمل غلافه كلمة «رماد»، إلى جانب تذكاراته اللافتة: «أجراس المساء»، «تعالى إلى نزهة فى الربيع» «عندما يتمرد الصدى» و»ورد الفصول الاخيرة»، «قلبى وغازلة الثوب الأزرق» «البحر موعدنا»، «الصراخ فى الآبار القديمة»، «مرايا النهار البعيد»، تأملات فى المدن الحجرية» و«حديقة الشتاء»، و»شجر الكلام».

وقد آثر بهذه المناسبة أن يطلعنا على المؤثرات التى صاغت وجدانه والمحطات الفاعلة فى تكوينه وتشكيل وعيه، والأسباب المؤدية إلى رهافة حسه ويقول فى بداية إطلالته وهو يجتاز بوابات الثمانين ويتخطاها بمرحلتين فى ليالى القمر كنت أصعد إلى سطح المنزل، وأتأمل هذا البهاء الإلهى، حيث تمتد المياه فى فترة الفيضان إلى ما لا نهاية فيبتدى مهرجان للجمال ولنقل أن الجمال يحيط بى من كل ناحية وكان والدى شيخا للقرية التى نشأت فيها فى أسرة بسيطة يغلب على ثقافتها التدريس، وقد تلقى أبى تعليمه فى مدرسة المعلمين وعندما مات والده فى عام ١٩١٩ وكان عمدة للقرية عاد والدى ولم يكمل تعليمه وانتقلت العمودية إلى أخواله، ونشأت فى هذه البيئة التى تتميز بمجموعة من الصفات أبرزها الثقافة الدينية التى لا يوجد سواها ولهذا كان أفراد أسرتى الكبيرة يتجهون إلى التعليم الأزهرى، وقريتى الودى بمركز الصف بمحافظة الجيزة تقع على شاطئ النيل وموقعها الفريد هذا جعل نباتاتها الرائعة تتفتح فى الربيع وقبل أن يشيد السد العالى كان بيتنا تحيط به المياه من كل ناحية، لأنه فى الأطراف الجنوبية للقرية، ويتصل بسائر أنحائها بما يشبه الجسر الصغير.
ولكن هناك أيضا سمة أساسية، وهى أن والدى بحكم طبيعته ونقائه، وأنه كان يتميز بالإنصات العميق لشكاوى الآخرين، كان بيتنا يفتح فى الصباح ليأتى إلينا رجال ونساء من ذوى الحاجات على اعتبار أن والدى هو شيخ القرية، ولم يكن ذلك بحكم منصبه ولكن بحكم شخصيته، وكنت وأنا نائم فى مكان قريب من المكان الذى يتجمع فيه هؤلاء القرويون أستمع إلى قصص تكون دامية أحيانا عن العلاقات الإنسانية وجحود الأبناء، وبطش الأزواج والشقاء الإنسانى، وطبعا بالنسبة إلى البيئة، فلنقل أن الجمال كان يتجلى فى الطبيعة، والشقاء كان يتجلى فى حكايات القرويين، أما السمة الرابعة فهى فى قرب الصحراء من قريتنا، وهذا القرب اللصيق جعل العلاقة بين النيل والصحراء نوعا من المفارقة والتضاد، وكنت أهرب أحيانا إلى الصحراء بعد أن اكتشفت فكرة الشعر وقصائد الشعراء القدامى، خاصة الشعراء العذريين، الصحراء أطلقت خيالى فكنت أتصور أننى واحد من هؤلاء مثل مجنون ليلى، وعمر بن أبى ربيعة، وجميل بن معمر، وسواهم من شعراء الغزل العذرى خاصة فى فترة المراهقة وبداية الشباب ويكمل أبو سنة: هذا المزيج من الشقاء والجمال ونشوة الطبيعة انطلق خيالى فى آفاق الصحراء قبل أن أذهب إلى أطراف هذا الوجود «المدينة»، بعد ذلك بعثنى والدى إلى المدينة مع أخى لأتلقى تعليمى الدينى أيضا طبقا لتعاليم الأسرة ولأحفظ القرآن الكريم فى مدرسة «شويكار قادم» التى كانت بجوار سيدنا الحسين.

قصائد ملهمة
ويمضى شاعرنا الكبير إلى محطة جديدة بقوله: الذى ألهمنى الشعر وأنا صبى ربما فى الخامسة عشرة من عمرى الذى كان يعم البلاد الإرهاص بثورة يوليو «١٩٥٢» كانت هناك أحداث هائلة قبلها مثل حريق القاهرة والثورة ضد الإنجليز كانت هذه الإرهاصات تبعث لنا برسائل ونحن طلاب فى المرحلة الابتدائية وكنا نخرج فى مظاهرات عارمة ضد الاحتلال، ولابد أن أقول إن الثورة هى التى ألهمتنى الشعر وقد كنت فى واقع الأمر حين أستمع إلى الأناشيد الكبرى أو الأغانى المتحمسة التى كانت تترنم بها أم كلثوم خاصة قصائدها الدينية، كنت أعكف على تقليد هذه القصائد الدينية، وقد حفظت القرآن الكريم ثم التحقت بمعهد القاهرة الدينى الابتدائى، طبعا كان الشعر فى البداية مجرد أحلام مراهقين ومناوشات لفكرة الثورة والوطن والإحساس بالوطن فجئت بالوطن لأرى واقعا مختلفا تماما وفى الأزهر تعرفت على الشعر بشكل منهجى وأعمق وفى مراحله المختلفة، ثانيا: تتلمذت على هذه النصوص الرائعة لشعراء العصور المختلفة فكانت فكرة الشعر قد بدأت تتفتح بشكل أقوى، ولكنها كانت ممتزجة أيضا بأحلام البطولة والزعامة وكنت أفكر بأحلام غريبة منها على سبيل المثال أننى كنت أحلم بأن أكون زعيما أو دبلوماسيا كبيرا، وهكذا لكن لنقل إن هذه المرحلة الابتدائية التجريبية كانت هى مرحلة عابرة فى حياة كل شاعر، ولكن اللحظة الحقيقية هى لحظة تعرفى على رابطة الأدب الحديث، هذه الرابطة التى تعرفت على أدبائها وشعرائها ونشاطها الأسبوعى، وكانت تعقد ندوة كل أسبوع وأظن أننى ذهبت إلى هذه الرابطة لأرى وجوها مشرقة مثل عبد القادر القط ود.محمد مندور والعالم ورشدى صالح والأبنودى، وسيد حجاب، وفى هذه الأثناء ألقيت فى الرابطة قصيدة ضد الهيمنة الأمريكية ، لاقت استحساناً كبيراً وإعجاباً ملحوظاً، وقد تعرفت فى هذه الأثناء على ناقد كبير وإنسان وشاعر وأب حقيقى هو الراحل مصطفى عبد اللطيف السحرتى، الذى لم يحصل على حقه من التكريم.

العشق فى حياتى!
وعن محطة أخرى فى حياته يحدثنا الشاعر الكبير قائلا: منذ فقدت والدتى فى عام ١٩٤٤ ظلت صورة المرأة ماثلة فى خيالى، وظلت مرتبطة بفكرة الجمال ومنذ وقت مبكر، وأنا أرى فى المرأة هى هذا العالم المليء بالحنان والحب والرقة والحماية أيضا، ولكل شاعر يمر بمراحل، الأولى كانت فى القرية، وكانت تخايلنى أشياء عندما أتردد على القرية، فى الإجازات الصيفية وهناك كنت أتعلق بكل وجه جميل، وفعلا حياتى مزدحمة بوجوه الجميلات، والوقوع السريع فى الحب وهى من صفاتى التى قادتنى دائما إلى الفشل الدائم فى الوصول إلى اكتمال فكرة الحب، كنت دائما أتعلق بكل وجه جميل أو بكل لمسة حانية، كنت أسعى إلى الحنان فى واقع الأمر أكثر مما هو الحب الحسى ثم كانت هناك مراحل تالية تعرفت على تجارب ناضجة، وربما مررت بتجربتين كبيرتين، الأولى أشبه بتجربة بودلير مع «جان دوفان»، وأخرى رومانسية أشبه بتجارب «لامارتين» أما الثانية فكانت ناجحة وسعيدة، وممتلئة بالنشوة ومكتملة إلى حد كبير طبعا لا أحب أن أسترسل فى الحديث عن هذا الموضوع لكن فكرة الحب أو العشق ركن فى تجربتى الشعرية بل هى روح تسرى فى أعطاف كل قصائدى ويضيف أبو سنة وبدأت لحظات الظهور منذ فترة مبكرة، وأنا مازلت طالبا فى كلية الدراسات العربية، عندما نشرت قصيدتى الأولى «القارة الغاضبة» بتوصية من الشاعر السودانى «جيلى عبد الرحمن».. فى ملحق «المساء» عام ١٩٥٩ لكن فكرة التحقق الشعرى لم تحدث إلا عندما صدر ديوانى الأول «قلبى وغازلة الثوب الأزرق» عام ١٩٦٥، بعد أن صدر هذا الديوان وأستقبل استقبالا طيبا، وهنا لحظة أعتز بها كلها، ولم أقل هذا الكلام من قبل، هذه اللحظة هى أننى بعد أن تخرجت فى عام ١٩٦٤ ولم أكن قد حصلت على وظيفة فى ذلك الوقت وكنت فى الأهرام وتحدثت مع الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور هذا الرجل الذى يتسم بالشهامة وحب الآخرين وتقديم العون لكل من يعرفه أو لا يعرفه، انتفض من مكانه وقال لى سأذهب معك إلى الفنان التشكيلى الكبير حامد سعيد فى قصر المانسترلى، وكان مديرا لإدارة التفرغ فى ذلك الوقت وفعلا ذهب معى إليه، وعرض عليه أن يساعدنى فى الحصول على منحة للتفرغ وكنت قد أبديت استعدادى بكتابة مسرحية شعرية، وكان من تقليد إدارة التفرغ أن يحصل المتقدم على تزكية من ثلاثة أدباء كبار.

كل هؤلاء العظماء
ومن أكثر الأشياء التى أعتز بها فى حياتى إلى أن أموت هذه الشهادات التى حصلت عليها ليس من ثلاثة، بل من أربعة هم: يحيى حقى، د.عبد القادر القط، د.لويس عوض، والناقد الكبير الراحل أنور المعداوى وكان ذلك عام ١٩٦٥.

الفرحة فى عمرى
وعن الفرحة يقول شاعرنا الفذ: عرفت الفرح الغامر الذى شمل كل أجزاء جسدى وروحى وعقلى عندما صدر ديوانى «قلبى وغازلة الثوب الأزرق» لأن هذا الديوان كان قد واجه بعض الصعوبات للنشر فى القاهرة وعندما رأيته فى هذه الصورة الجميلة والإخراج البديع هزنى هذا الفرح الذى لم أشعر به بعد ذلك برغم صدور دواوين كثيرة لى.. ويضيف هناك فرح عندما أقيم لى احتفال بمناسبة بلوغى سن السبعين وصدور هذا الكتاب الضخم «سبعون عاما من الإبداع» من إعداد وتقديم فاروق شوشة، وفى هذا العام أيضا اختارونى رئيسا لمؤتمر أدباء مصر الذى عقد فى الغردقة وكان ذلك تكريما لى أدخل السعادة والفرح إلى قلبى.

ويسترسل وعندما رأيت وجه حفيدى المنير شعرت بسعادة غامرة.. وكتبت قصيدة بعنوان «إلى حفيدى أحمد».

أمنيات ما بعد الثانية والثمانين
وفى الختام يقول الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبو سنة: لا أتمنى إلا أن يظل اسمى مرتبطا بالشعر، وأن تصدر طبعة جديدة من أعمالى الكاملة.