حكايات| «طاعون الرقص».. حفلات «هز وسط» حتى الموت!

صورة زيتية توثق طاعون الرقص
صورة زيتية توثق طاعون الرقص

 
دمار البشرية؛ لم يتوقف عند الحروب وعمليات التطهير العرقي والقتل الجماعي؛ فلقد كان للأوبئة والأمراض النصيب الأكبر من تقليص عدد سكان العالم؛ بل وإن بعضها غير مجرى التاريخ الإنساني.

 

فمن طاعون جستنيان الذي ضرب الإمبراطورية المنطقة الرومانية الشرقية والإمبراطورية البيزنطية، بما في ذلك العاصمة القسطنطينية، في السنوات 541 و 542 ميلادي، الذي أدى إلى وفاة حوالي 100 مليون شخص في جميع أنحاء أوروبا وآسيا، إلى وباء الجدري الذي سبب العمى لملايين الضحايا عبر التاريخ، وتسبب في وفاة أكثر من 300 مليون شخص في القرن العشرين وكان المسؤول الأول عن هزيمة حركة الأزتيك في المكسيك أثناء حربها ضد إسبانيا.

 

مرورا بوباء الأنفلونزا الإسبانية عام 1918 الذي انتشر في أعقاب الحرب العالمية الأولى في أوروبا والعالم وخلف ملايين القتلى، بخلاف الطاعون الأسود الذي اجتاح أنحاء أوروبا بين عامي 1347 و1352 وتسبب في موت ما لا يقل عن ثلث سكان القارة، إضافة إلى وباء الكوليرا عام 1821 والذي قتل في ثلاثة أسابيع أكثر من 18 ألف شخص

 

وعن طاعون الأنطونية، انتشر في روما، وكان يقتل حوالي 5 آلاف شخص في اليوم الواحد، ووصل عدد الوفيات إلى 5 ملايين شخص على مدار 15 عامًا، أما الإيدز فتسبب في قتل أكثر من 25 مليون شخص منذ عام 1981، وختاما الطاعون العظيم والذي أصاب مقاطعة يونان الصينية عام 1855، لينتشر لاحقا إلى جميع قارات العالم المأهولة، وتسبب الوباء الثالث في نهاية المطاف بمقتل 12 مليون إنسانٍ في الهند والصين وحدهما.

اقرأ للمحرر أيضــا:


 

وليس عجيبا أن تكون تلك الأوبئة أحد مسببات وفاة الملايين من البشر، ففي النهاية كلها أمراض فتاكة ناتجة عن بكتيريا أو فيروسات، لكن قصة اليوم هي عن وباء انتشر في يوليو من عام 1518 في مدينة ستراسبورج في إقليم الألزاس الذي كان جزءا من الإمبراطورية الرومانية المقدسة وتقع حاليا في فرنسا، وهو وباء الرقص.

 

العقل البشري قادر على هضم فكرة أن يموت الملايين نتيجة وباء أو مرض ما؛ لكن أن يكون الرقص - ذلك الفن الذي يساعد في إخراج الطاقة السلبية من جسد الإنسان وروحه ويجعله يشعر بالسعادة - أحد أسباب وفاة البعض ذلك ما قد يعصى على العقل تصديقه أو الاعتراف به.

 

لكن حقيقة الأمر أنه في إقليم الألزاس أُصيب سكان المدينة بـ «طاعون الرقص»؛ والذي كان عبارة عن هيستريا رقص جماعية سيطرت على العديد من سكان المدينة، فرقصوا لعدة أيام متواصلة، حتى مات الكثير منهم بالنوبات القلبية والسكتات الدماغية والإرهاق، وقدر عدد الوفيات حينها بحوالي 400 شخصا.

 

الرصاصة الأولى؛ انطلقت من «وسط» سيدة تدعى «فراو تروفيا»، والتي خرجت إلى الشارع وبدأت في الرقص بحماس لمدة تراوحت بين 4 إلى 6 أيام، وبعد ذلك انتشر الوباء وانضم لها 34 شخصًا أخرين، وبحلول شهر أغسطس كان الوباء قد انتشر في المدينة ليشمل 400 ضحية، والبعض منهم مات نتيجة النوبات القلبية أو السكتات الدماغية أو الإرهاق.

الأمر في ظاهره قد يبدو أسطورة، ولكن السجلات التاريخية للقرن الـ 16 شاهدة على هذا الوباء العجيب والغريب والفريد من نوعه، بل والأمر تعدى إقليم الألزاس لتظهر حالات مشابهة لذلك الوباء في سويسرا وألمانيا وهولندا، ولكن ما حدث في عام 1518م في ستراسبورج كان الأكثر فتكًا والأكثر عددًا بالنسبة للمرضى.

 

والحادثة موثقة تاريخيا أيضا في «مذكرات الأطباء والمواعظ في كاتدرائية المدينة والسجلات المحلية والإقليمية وحتى المذكرات الصادرة من قبل مجلس مدينة ستراسبورج»، وكلها تؤكد أن الضحايا رقصوا حتى الموت.

 

الأطباء والعلماء، رجحوا - في ذلك الوقت - أن السبب وراء هذا الوباء زيادة في الدم الحار في أجسام هؤلاء المرضى، ما دفعهم لنصح النبلاء والسلطات في حينها، لأن يقيموا مسارح وقاعات للرقص لهؤلاء المرضى.

 

اعتقد العلماء، أن ذلك سيكون حل للوباء وأن المرضى سيتعافون إذا رقصوا في مسارح وقاعات مخصصة للرقص، ولكن المرضى حالاتهم تدهورت أكثر وأصيبوا بالإنهاك والتعب حتى مات بعضهم، واستمر ذلك الوباء ولم ينتهي حتى شهر سبتمبر.

اقرأ للمحرر أيضــا:

 

المؤرخ جون والر، ذكر أن رجلا في قوة عداء ماراثون مثلا، لن يستطيع أن يجاري هؤلاء الراقصين في حركتهم المكثفة والتي أدت بهم إلي الوفاة.

 

على مر العصور احتار العلماء في وضع أسباب للوباء، ولم يستطيعوا أن يضعوا تفسيرا لهذا المرض الغريب، ولكن ذهب بعضهم مثل القديس فيتوس وهو قديس كاثوليكي في القرن الـ 16، إلى أن هذا الوباء كان لعنة أصابت المدينة وخصوصًا مع وجود الأوبئة والمجاعات في تلك الفترة.

 

يتبعون طائفة دينية، كانت تلك إحدى النظريات الأخرى التي رجحها البعض معتبرين أن الرقص حتى الموت أحد طقوس تلك الطائفة، ولكن هناك من استبعد تلك النظرية مرتكنين إلى أن الراقصين لم يكن يبدو عليهم أنهم يشعرون بالراحة خلال رقصهم، بل بدا عليهم علامات الذعر والخوف. 

 

نظرية أخرى فسرت الأمر على أنه حالة من التسمم الجماعي عن طريق فطر ينمو على الخبز يسبب الهلوسة، ولكن مع حالة التسمم سيبدو الأمر مستحيلا على المريض أن يرقص بشكل متواصل ولعدة أيام، لذا استبعد البعض أيضا تلك النظرية، ليبقى الأمر غامضا دون تفسير حتى الآن.

 

«طاعون الرقص»؛ رغم مرور قرون على أحداثه، إلا أنه حتى الآن لم يستطع أحد أن يفسر أسبابه أو وضع سيناريو أو نظرية ترجح ما الذي أصاب سكان مدينة ستراسبورج في ذلك الوقت دفعهم للرقص حتى الموت، بل ظل الأمر حبيس كتب التاريخ، ولغزا محيرا لأكبر العقول العلمية والطبية.. فهل يتوصل أحد العلماء لسبب هذا الهوس في يوم من الأيام.. أم يظل أحد أحداث التاريخ العجيبة والغريبة..