حكايات| خوفا من العار.. اختبأ من الحرب العالمية الثانية 30 عاما‎

مخبأ الجندي من الحرب العالمية الثانية
مخبأ الجندي من الحرب العالمية الثانية

«أن أموت فهذا شيء لا يخيف.. ولكن أن أموت عارا فهذا هو المخيف.. هؤلاء العظماء كالأشجار يموتون واقفين.. وإذا ماتوا جاء موتهم عند قمتهم.. أن تموت أسدا خير من أن تعيش كلبا.. الموت هنا.. الموت هناك.. الموت مشغول بالحياة في كل مكان.. وكل مكان مقبرة».. بهذه الكلمات اختصر الكاتب الكبير أنيس منصور فكرة أن الموت أهون من العيش مع العار؛ وأن تكون أسير مخاوفك ربما يكون أصعب من أن تكون أسير حرب.

 

وبطل قصتنا أحد أولئك الذين فضلوا العيش في مقبرتهم الخاصة ليكون أسيرا لمشاعر الخوف، على أن يكون أسير حرب، وكما يقولون: «الحرب لو يعلمون لا تستعر نيرانها في أجواف المدافع بل في قلوب الناس وأفكارهم أيضا».

 

 

شرارة الحرب

ومع بزوغ شمس الحرب العالمية الثانية في الأول من سبتمبر من عام 1939 في أوروبا، والتي شاركت فيها الغالبية العظمى من دول العالم وشارك فيها بصورة مباشرة أكثر من 100 مليون شخص من أكثر من 30 بلدًا، تاركة خلفها الملايين من القتلى، مع المشهد الذي لا يغادر الذاكرة من إلقاء قنبلتان ذريتان على هيروشيما وناغازاكي، ليرجح البعض أن عدد ضحايا الحرب يتأرجح ما بين 50 و85 مليون قتيل؛ لذلك تعد أكثر الحروب دموية في تاريخ البشرية.


 

 

ربما الحرب العالمية الثانية شبعت وصفا وكتبا ومجلدات تصف تلك المجزرة الإنسانية التي راح ضحيتها الملايين والملايين من الضحايا، ولكن كان هناك مشهد أخر في تلك الحرب نلقي عليه مزيدا من الضوء؛ وربما كان هو الشرارة التي فجرت الأحداث وقلبت موازين تلك الحرب وفي القلب منها قصة بطل قصتنا، وهو الصراع الأمريكي الياباني، حيث أنه في يوم 8 ديسمبر 1941 قررت الولايات المتحدة الأمريكية أن تخوض الحرب العالمية الثانية بجانب دول المحور مما غير شكل الحرب تماما، وذلك بعد الهجوم على القاعدة البحرية الأمريكية في «بيرل هاربر بجزر هاواي».

معركة غوام

والهجوم على بيرل هاربر كان بغارة جوية مباغتة نفذتها بحرية الإمبراطورية اليابانية في 7 ديسمبر 1941 على الأسطول الأمريكي القابع في المحيط الهادئ، وأسفر عن مقتل ألفين و 402 أشخاص وجرح ألف و 282 آخرين، بينما كانت الخسائر اليابانية ضئيلة، فقد دُمِّرت 29 طائرة وأربع غواصات قزمة، وقُتل وأُصيب 65 جنديا فقط.

 

في خضم ذلك كله، كانت هناك معركة غوام الأولى، وهي اشتباك وقع يوم 8 ديسمبر 1941 بين الإمبراطورية اليابانية والولايات المتحدة أثناء حرب المحيط الهادئ في الحرب العالمية الثانية في غوام بجزر الماريانا، وأسفرت المعركة عن هزيمة الحامية الأمريكية واحتلال اليابانيين للجزيرة حتى معركة غوام الثانية سنة 1944، التي اجتاحت فيها القوات الأمريكية الجزيرة في عام 1944م واستطاعت أن تسترجعها في العاشر من أغسطس 1944م.

بطل القصة

وفي معركة غوام الثانية عام 1944م، كان هناك جندي يعمل في جيش الإمبراطورية اليابانية برتبة رقيب يسمى شويتشي يوكي، وكان ضمن القوات اليابانية التي كانت في آخر معاقل للجيش الإمبراطوري في جزيرة غوام اليابانية، ومع الحرب المستعرة ووقع القذائف والرصاص الذي يأتي من كل صوب، كان القتال شرسا، وكانت الخسائر عالية من الجانبين، ولكن بمجرد أن تعطلت القيادة اليابانية، ترك جنود مثل يوكوي وآخرون ليتدبروا أمورهم بأنفسهم، وبهزيمة القوات اليابانية أمام الأمريكية، لم يجد يوكي مفرا من الهروب خوفا من الوقع أسيرا في يد العدو، وأضطر إلي الاختباء في أحد الكهوف لمدة تقارب الثلاثين عاما..

 

ثلاثة عقود قضاها الجندي الياباني في أحد الكهوف مختبئا من القوات الأمريكية، إلى أن تم العثور عليه في 24 يناير 1972، من قبل مواطنين محليين في الجزيرة هما «يسوع دوينياس ومانويل دي جراسيا»، أثناء تفقدهم للأفخاخ الخاصة بهم لصيد الجمبري، وكانوا من قرية تلوفوفو، وعندما رآهم يوكي اعتقد أن حياته في خطر فهاجمهم، لكنهم استطاعوا إخضاعه وحملوه معهم إلى القرية.

 

 

العودة بعد موت

بعد أسابيع قليلة من أسره، عاد يوكوي في عام 1972 إلى اليابان؛ بلد مختلف كليًا عن تلك التي شهدها آخر مرة في أغسطس عام 1940، وضرب بمثابرة الجندي الياباني المثل؛ والعديد من اليابانيين المسنين رأوه كمصدر إلهام، لأنهم اعتبروه مثالا لقيم ما قبل الحرب من الاجتهاد والولاء للإمبراطور، في حين أن الشباب الأصغر سنا بدا بالنسبة لهم أنه غر ذي أهمية.

 

«إني محرج جدا.. لكني عدت أخيرا»؛ ما أن وصل الجندي الياباني إلى وطنه اليابان، أخذ يردد في تلك الجملة ثم انفجر في البكاء عندما شاهد جبل فوجي أحد رموز اليابان، مستطردا في سرد قصته الغريبة مبررا هروبه إلى أحد الكهوف في جزيرة غوام وقت الحرب إلى أنه كان يعتقد أن الحرب لم تنته، وأن الحلفاء يترصدون الجنود الفارين من الحرب؛ رغم عثوره على منشورات للحلفاء تخبر بأن الحرب انتهت، لكنه لم يصدقها وكان يعتقد أن المنشورات كاذبة وأنها خدعة للقبض عليهم، وأنه كان يرى أنه من العار أن يتم القبض عليه من قبل قوات العدو.

 

الخوف من العارويقول يوكوي: «كنت أخشى أن يأخذوني كأسير حرب.. كان هذا سيكون أكبر عار على جندي ياباني وعائلته في الوطن»، مضيفا: «منذ بداية الهزيمة اهتممت بشكل كبير بعدم الكشف عني ومحو آثار أقدامي أثناء التحرك عبر الشجيرات إلى أن تواريت في غابة الجزيرة.. كنت أأكل الضفادع السامة والجرذان.. وصنعت فخًا لصيد الثعابين.. وحفرت مأوى تحت الأرض، مدعوما بقوي الخيزران القوي ومكثت فيه الـ 30 عاما ما بعد الحرب».

 

«يوكي»، بعد عودته إلى وطنه، أصبح شخصية شهيرة في اليابان، وأصبح ضيفا بصفة مستمرة على وسائل الإعلام، وتزوج واستقر في محافظة أتشي الريفية، وصنع فيلم وثائقي يوثق حياته في غوام، وحصل على مكافأة نهاية الخدمة.

 

وعلي الرغم من أنه لم يلتق الإمبراطور الياباني «هيروهيتو» أثناء زياراته للقصر الإمبراطوري، لكنه قال: «أصحاب الجلالة لقد عدت إلي المنزل.. أشعر بأسف عميق لأنني لم أستطع أن أكون خير عون لكم.. لقد تغير العالم بالتأكيد.. و لكن تصميمي لخدمتكم لن يتغير».

 

العيش بأمل

مذكرات يوكوي التي نشرت في كتاب «حرب يوكوي الخاصة» و«الحياة في غوام»، تكشف عن عدم يأسه بالتخلي عن الأمل، خاصة في السنوات الثماني الأخيرة عندما كان وحيدًا تمامًا، حيث أنه في أول عقدين كان برفقة 10 آخرين من الجنود، ولكنهم توفوا مع فيضانات عام 1964.

 

وفي مناسبة أخرى، عندما كان مريضا يائسا في الغابة، كتب: «لا.. لا أستطيع أن أموت هنا.. لا أستطيع الكشف عن جثتي للعدو.. يجب أن أعود إلى وطني للموت هناك.. لقد تمكنت حتى الآن من البقاء على قيد الحياة».

 

 

 

استقبال الأبطال

سلطت قضية يوكوي الضوء على التحول غير العادي الذي مرت به اليابان - نفسيا وماديا - في العقود التي تلت الحرب، وكان يشبه البطل في حفل الترحيب في مطار طوكيو، كما شاهد الملايين من اليابانيين على شاشات التلفزيون لحظة وصوله، واصطف الآلاف من اليابانيين وهم يلوحون بأعلام يابانية بينما كان يتم إيصاله إلى منزله، وتم بث الحدث على الهواء مباشرة، وكانت الكاميرات في كل مكان حيث توقف يوكوي في مقبرة القرية وبكى على ضريح العائلة، الذي سجل أنه مات في غوام في عام 1944.

 

قصة «يوكي» دفعت الحكومة اليابانية إلى البحث عن جنود يابانيين آخرين تركوا في الحرب، وفي عام 1974، عُثر على ملازم ياباني يدعى هيرو أونودا يعيش في فيلبي.

توفي يوكي عام 1997 إثر أزمة قلبية عن عمر يناهز 82 عاما ودفن في مقبرة ناغويا في نفس المقبرة التي أقيمت له يوم أعلن عن وفاته رسميا عام 1955. وبعض ممتلكاته من تلك السنوات في الغابة، بما في ذلك أفخاخ ثعبان السمك، لا تزال معروضة في متحف صغير في الجزيرة.