«تحقيق»| عربات وكرفانات التبرع بالدم.. منافذ للأمراض والموت البطيء

«تحقيق»| عربات وكرفانات التبرع بالدم.. منافذ للأمراض والموت البطيء
«تحقيق»| عربات وكرفانات التبرع بالدم.. منافذ للأمراض والموت البطيء

عربات للتبرع بالدم.. تخالف الاشتراطات الصحية وتنقل الأمراض


40 % من المصابين بالفيروسات ضحايا «الدم الملوث»


الأطباء يهربون من المشاركة في الحملات والقانون لم يعدل منذ 58 عامًا


أميرة فقدت حياتها بسبب نقل الدم الفاسد.. وإسلام أصيب بفيروس «B»

 

فى أغسطس الماضى كانت الزوجة الثلاثينية تتهيأ لاستقبال مولودها الجديد، لكنها لم تكن تعلم مدى خطورة الولادة فى مركز طبى غير مجهز طبيا، وأنها من الممكن أن تدفع حياتها وحياة جنينها ثمناً لنقل دم ملوث إليها بسبب حرصها على توفير النفقات، خاصة أنها أم لأربعة أبناء مما جعلها تختار مركزًا قريبًا من منزلها إلا أنه لم يكن كافيًا لضمان سلامتها حين تعرضت لنزيف حاد أثناء الولادة.

أميرة محمد، تقيم بمركز فاقوس محافظة الشرقية، تدهورت حالتها بعد تعرضها لنزيف حاد -حصلت »الأخبار» على نسخة من التقرير الطبى لها- لتنقل بعدها إلى مستشفى خاص بمدينة الزقازيق فى حالة متأخرة لينقل إليها دم ملوث أدى إلى وفاتها بعد ثلاثة أيام فقط وفقًا لما نص عليه التقرير الطبي.

 أثبت تقرير اللجنة الطبية المشكلة من الإدارة المركزية للتراخيص والعلاج الحر بوزارة الصحة للتحقيق فى الواقعة، أن المريضة نقل إليها دم ملوث أدى إلى فشل كلوى حاد، وأن المستشفى يجمع الدم من المتبرعين بشكل عشوائى لا يتطابق مع الاشتراطات الطبية اللازمة لكى يكون سليماً ويبيعونه للمرضى وبالفعل أظهرت تحقيقات النيابة العامة وجود أكياس دم ملوثة بالمستشفى وتم ضبطها وحبس الطبيب المسئول 6 أشهر نتيجة الإهمال الطبى وذلك بناء على محضر من أسرة أميرة تم تحريره برقم 1295 إدارى فاقوس ضد الطبيب.

 

3 ملايين يحتاجون لنقل دم سنويًا

أميرة هى واحدة ضمن 3 ملايين مصرى يحتاجون إلى نقل دم سنويًا، وذلك بحسب منظمة الصحة العالمية التى أقرت معادلة يمكن من خلالها حساب احتياجات كل بلد من أكياس الدم، وهى نسبة من 1: 3% من تعداد السكان، وفى مصر بلغ عدد السكان 100 مليون نسمة، يتبرع مليون و600 ألف مواطن أى النقص يبلغ مليونا و400 ألف شخص، بنسبة نقص 46.7% بحسب تأكيد د. شيرين صبرى رئيس قسم رعاية المتبرع بالمركز القومي لنقل الدم التابع لوزارة الصحة.

تكشف «الأخبار» فى تحقيق استقصائى استمر العمل عليه قرابة 6 أشهر، تورط عاملين (أطباء.. ممرضين.. موظفين) بحملات ميدانية للتبرع بالدم، فى مخالفة الاشتراطات الطبية الرسمية تجعلهم لا يحصلون على دماء من متبرعين مطابقين للاشتراطات الصحية، مما يؤدى إلى إصابة المرضى بعد نقل الدم إليهم بأمراض تفاقمية تصل للموت، ويؤدى أيضاً إلى إحجام المتبرعين فيتأذى أصحاب الفصائل النادرة فى ظل ضعف الرقابة وقانون لم يحدّث منذ 58 عاما.

 

فيروسات مميتة

ليست أميرة الحالة الوحيدة التى تعرضت إلى نقل دم ملوث، إسلام يوسف، صاحب الـ 27 عاما، حاصل على دبلوم فنى صناعي، من محافظة الإسكندرية أصيب بمرض الهيموفليا  (سيولة الدم، وهو أحد أمراض الدم الوراثية الناتجة عن نقص أحد عوامل التجلط فى الدم بحيث لا يتخثر دم الشخص) منذ أن كان فى التاسعة من عمره ليظل طيلة 18 عاما بحاجة إلى نقل الدم، توقف بعدها عقب إجراء تحاليل طبية فى أحد المعامل التابعة لوزارة الصحة.

حصلت «الأخبار» على نسخة منه- أثبتت نتيجتها الإصابة بفيروس التهاب الكبد الوبائى «B» نتيجة نقل الدم والبلازما بعدما اعتاد نقله فى بنك الدم الإقليمى بمحافظة الإسكندرية منذ ولادته حتى تاريخ الاصابة بالفيروس عام 2015، فتوقف وأجرى كشوفًا طبية أخرى عند طبيب واستعاض عن نقل الدم بأربع حقن شهرية لمرضه المزمن يصرفها على نفقة الدولة ويجد صعوبة أحيانا فى صرفها فيضطر لشرائها على نفقته رغم عدم عمله.

 

«بيشوى يحيي» 7 سنوات أصيب بمرض الهيموفيليا - النزيف المميت- وهو الذى جعله يحتاج إلى نقل الدم، وواجه والده ذلك بصعوبة شديدة ولم يستطع تحمل التكلفة حتى أخبره طبيب أن العلاج المتاح له هو «كرايو» وهو أحد مشتقات الدم.. «بدأنا نعالج بيشوى بالطريقة دى لحد مابتدا يشتكى انه مش قادر يروح المدرسة افتكرناه بيدلع، لكن لقيناه مش بيلعب مع أصحابه مش قادر» هكذا تحدث يحيى بسطا والدبيشوى والذى يعمل «مكوجي» فى منطقة عزبة النخل بمحافظة القليوبية.

 

بالفعل أخبره الطبيب ضرورة إجراء بعض التحاليل للاطمئنان على الصغير، وبتاريخ 11 مارس 2017 ظهرت نتيجة تحليل الفيروسات التى أجراها بيشوى فى مستشفى أطفال مصر التابع لهيئة التأمين الصحى بوزارة الصحة واكتشف من خلالها اصابة ابنه بفيروس الالتهاب الكبدى الوبائى .

«انا مبقتش عارف اعمل ايه.. ودخلى بسيط.. مقدرش أكفى مصاريف العلاج دى كلها» خرجت تلك الكلمات من ثغر والد الطفل الذى أصبح يحمل عبء مرضين ينهشان فى جسد طفله ويحمل عبء نجله الأصغر ابن 5 سنوات والذى يعانى من مرض الهيموفيليا هو الآخر.

 

نقص التبرعات

«عدم ثقة الناس فى أماكن التبرعات وما يحدث فيها من مخالفة للاشتراطات الطبية، وإصابة بعض المرضى بالفيروسات نتيجة نقل الدم الملوث إليهم يؤدى إلى نقص التبرعات فينعكس ذلك بشكل سلبى على أصحاب فصائل الدم خاصة النادرة وهى الفصائل السالبة» حسب د. إيهاب سراج الدين، مستشار الأمين العام لشئون الجودة ببنوك الدم التابعة للهلال الأحمر المصري.

يضيف أن الفصائل أربعة أنواع وهى (A.O.AB.B) منها الموجبة التى تحمل عامل (کH) ونسبتها 85% من البشر أما الذين لا تحمل فصائلهم هذا العامل تصبح فصائلهم سالبة ونادرة تمثل 15% وعدم توافرها له تداعيات تصل إلى الوفاة وتدهور حالة حاملها إذا تعرض إلى حادث أو أصيب بمرض يستلزم نقله للدم.

حديث «سراج الدين» عاشته سمر ابراهيم البالغة من العمر 18 عامًا عندما أصيبت بأنيميا البحر المتوسط (مرض وراثى وأحد أمراض فقر الدم المزمنة، نتيجة نقص كرات الدم الحمراء فى الدم) منذ أن كانت فى السادسة من عمرها، فلم يكن أمامها حل سوى نقل الدم المتكرر لإنقاذ حياتها، تحتاج إلى (2 كيس) شهريًا ونظرًا لنقص فصيلتها وهى (O-) وتعتبر فصيلة دم نادرة غير متوافرة دائمًا فى بنوك الدم.

والدة سمر تعمل خادمة فى المنازل لتسد احتياجات منزلها بعد طلاقها، حيث فضل الأب الزواج من أخرى وفر تاركًا بيته وأبناءه الأربعة وجميعهم مصابون بأنيميا البحر المتوسط دون نفقة أو مسئولية، فتحملت الأم عبء الإنفاق على بيتها وتخدم أطفالها المحتاجين إلى رعاية خاصة.

فى شهر نوفمبر من العام الماضى تدهورت حالة سمر واحتاجت إلى نقل دم من فصيلتها، وزاد الأمر صعوبة أن فصيلتها تحولت إلى فصيلة ممتدة أى لا تقبل أى كيس دم من نفس فصيلتها نتيجة تكوين جسدها أجساما مضادة لتكرار نقل الدم إليها، فاستلزم الحصول على كيس فصيلة (o-) ولكن بعد عمل تحليل توافق ليقبله جسدها دون ضرر لها.

ظلت سمر تعانى قرابة أسبوع فى فراش المرض بمستشفى الدمرداش الحكومى بمنطقة العباسية حتى فارقت الحياة نتيجة عدم وجود كيس من نفس فصيلتها وتدهور حالتها الصحية إلى أن  فارقت الحياة.

قصة أخرى لها ضحايا آخرون، مروان (13 عاما) ومازن (11 عاما) أصيبا بمرض أنيميا البحر المتوسط ليصبحا عبئًا كبيرًا على والدتهما سميحة حسن ربة المنزل الأربعينية التى تركها زوجها ليسافر خارج البلاد ناكرًا لدور الأب بعد معرفته بمرض الإبن الأصغر.

سميحة من أسرة متوسطة الحال من محافظة القاهرة، يحتاج أبناؤها إلى نقل دم كل 21 يوما، وأصبح الأمر أشبه بالمستحيل حيث يملك مروان ومازن فصائل دم نادرة فالأول فصيلته (o-) والثانى (b-) وتردت حالتهما بسبب نقص توافر فصائلهما خاصة الابن الأصغر الذى اضطر إلى اجراء عمليات استئصال الطحال والمرارة.

بلسان دائم الحمد لله ومبتسم تقول سميحة »الحمد لله ان عندى ولاد حتى لو عيانين .. دى نعمة غيرى مش طايلها وبكرة يشدونى ويدخلونى الجنة .. والحمد لله ربنا بيكرم باللى بيساعد وياريت الناس تتبرع عشان ولادى واللى زيهم» هكذا تحدثت سميحة لـ »الأخبار» مؤكدة أن هناك من الجمعيات الخيرية التى تصبح حلقة وصل بين بنوك الدم والمتبرعين المحتاجين خاصة فى حالة نقص بعض الفصائل.

 

الخوف من العدوي

لا يوجد احصاء واضح عن عدد المصابين أو حالات الوفاة نتيجة نقل الدم الملوث أو نتيجة لعدم توافر الفصائل المناسبة لكن خلال رحلة البحث عن أسباب انخفاض حجم التبرعات بالدم، أجرت «الأخبار» استبيانًا على عدد 50 مفردة بعينة عشوائية للتعرف على أبرز أسباب عدم التبرع، وأظهرت النتائج نسبة 48%  أحجموا عن التبرع بسبب الخوف من انتقال العدوى خاصة فى الحملات الميدانية، يليها 29 % لا يثقون فى جهات التبرع وعدم وصول  أكياس الدم إلى مستحقيها، فى حين جاءت نسبة 20% ابتعدوا عن عربات التبرع الميدانية بسبب الأسلوب المنفر الذى تستخدمه الحملات فى الشارع ومحطات مترو الأنفاق للنداء على المتبرعين و نسبة 3% يعانون من أمراض تمنعهم من التبرع.

وترى د. أمال البشلاوي، أستاذ طب الأطفال وأمراض الدم بكلية طب القصر العيني، أن عدم تطبيق الاشتراطات الطبية مثل سؤال المتبرع عن العمليات الجراحية التى أجراها أو حشو الأسنان قبل 6 أشهر من التبرع أمر فى غاية الخطورة ويعد سببًا رئيسيًا فى انتشار فيروس »  فى مصر ونقل العدوى حيث تعتمد تحاليل الفيروسات لأكياس الدم على تحاليل الأجسام المضادة والتى لا يمكنها اكتشاف وجود الفيروسات قبل مرور 6 أشهر على الإصابة.

وتشير إلى أن 50% إلى 60% من المرضى الذين ينقل إليهم الدم باستمرار مثل مرضى انيما البحر المتوسط، مصابون بفيروس » نتيجة نقل دم ملوث إليهم، وإجماليا عدد المصابين بالامراض والفيروسات نتيجة نقل الدم ليس اقل من 30% إلى 40%. لكن لا يوجد إحصائية رسمية عن نسبة ضحايا نقل الدم الملوث.

وطالبت البشلاوى بالتفتيش على حملات التبرع بالدم للتأكد من مراعاة الاشتراطات الطبية وكذلك التفتيش باستمرار على بنوك الدم الحكومية والخاصة، وإنشاء جهة رقابية واحدة للقيام بكل هذا، وخلق الية لمحاسبة القائمين على عمليات التبرع و تجميع ونقل الدم، ايجاد عقوبات للمخالفين من  الأطباء أو التمريض او العاملين فى حملات التبرع لعدم وجودها فى القانون الحالي.

 

 مغامرة ميدانية

فى محاولة لمعايشة واقع تلك الحملات الميدانية التى أظهرت نتائج الاستبيان أنها تفتقد إلى المصداقية لدى المتبرعين وأن النسبة الأكبر تخشى من نقل العدوي، حرص معدا التحقيق على استكمال رحلة البحث من خلال خوض مغامرة صحفية والذهاب إلى كرافان تبرع بالدم بمحطة مترو جمال عبد الناصر، بميدان الإسعاف وسط القاهرة،  وذلك يوم 8 نوفمبر من العام الجارى فى تمام الساعة الرابعة عصرًا لرصد طريقة التعامل مع المواطنين وخوض تجربة التبرع وكذلك رصد مدى حرصهم على تطبيق الاشتراطات.

«ياآنسة.. يا أستاذ.. يا مدام.. تتبرعوا..» هكذا كانت طريقة النداء على المتبرعين من قبل الأطباء والموظفين التابعين لحملة التبرع المتواجدة بالمحطة، يتطور الأمر إلى جذب احيانًا وملاحقة لهم، معظم المارة ينظرون إلى المنادين عليهم ثم يرحلون فى صمت أو يخبرونهم أنهم لا يمكنهم التبرع وأحيانًا تصل إلى الردود الساخرة والغاضبة.

اقتربنا إلى الكرافان لنسأل أحد القائمين على الكرافان عن الجهة التى يتبعونها ليجيب أنه بنك دم »فاكسيرا.. المصل واللقاح» (الشركة المصرية لخدمات نقل الدم التابعة للشركة القابضة للمستحضرات الحيوية واللقاحات »فاكسيرا» وهى شركة حكومية تابعة لوزارة الصحة)، وأنه لا خوف من عملية التبرع فقط »شكة دبوس» ليشارك فى الحديث شخص آخر ليخبرنا أنه الطبيب الموكل بالإشراف على الكرافان وكذلك موظفة تابعة لوزارة الصحة –كما أخبرتنا- وتعمل فى هذا الكرافان من أجل متابعة نقل الدم.

حاول معدا التحقيق التأكد أكثر من تطبيق الاشتراطات لسلامة الدم المتبرع به بعد عدم عرضه استمارة الفحص على معدى التحقيق فأخبرنا الطبيب أن مُعدّة التحقيق تعانى من الأنفلونزا الشديدة وتحرص على تناول مضاد حيوى 1000 مجم كذلك قامت بحشو جذور لـ3 ضروس بسبب أنها أصيبت بوجود خراج فاضطر الطبيب إلى علاجها عن طريق الحشو ولم يمر على ذلك سوى يومين فقط وكذلك تناول دواء للضغط لمدة تقارب عامين- موانع للتبرع-  ليكون رد الطبيب أن كل ذلك طبيعى وأنه لا مشكلة اذا قامت بالتبرع. - تملك الأخبار توثيقًا بالصوت والصورة-، لكن ذلك يخالف الاشتراطات الصحية التى تتضمن مرور 6 أشهر على حشو الضرس او العمليات الجراحية لصعوبة اكتشاف الفيروسات فى الدم المتبرع به اثناء اجراء تحاليل الفيروسات (» ، B) ونقص المناعة »الايدز»، والزهري، قبل هذه الفترة – بحسب استمارة اشتراطات التبرع تملك الأخبار نسخة منها».

تدخلت حينها الموظفة لقياس نسبة الهيموجلوبين والتى أظهرت نتيجتها أنه فى المعدل الطبيعى لتسحبنا خلف كرافان التبرع من أجل أخذ عينة الدم دون قياس الضغط أو السكر أو ملء استمارة البيانات رغم وجودها فى المنضدة المقابلة للكرافان، والمتضمنة 17 سببا يمنع توافر احدها التبرع، ومن المفترض أن يسجلها المتبرع لتحديد صلاحية تبرعه من عدمه والتواصل فيما بعد وكتابة نتائج التحاليل بها، واكتفى الموظفون بتدوين اسم معدة التحقيق فى دفتر دون تسجيل رقم البطاقة الشخصية حسب الاشتراطات.

الكرافان يمتلئ بالذباب وأكياس الدم ملقاة على الأرض، و»قشر لب»يلقيه العاملون بالكرافان على الأرض، أحد المتبرعين يستلقى على سرير فى حين طلبت الموظفة من معدة التحقيق الاستلقاء هى الأخرى من أجل أخذ العينة، حاولت اخبارها أنها لا تريد التبرع وأنها تشعر برعشة تسرى فى جسدها وليست فى حالة جيدة لترد »بلاش دلع انتى كويسة وزى الفل».

الطبيب يقف بعيدًا لمشاهدة المارة ذهابًا وايابًا اما الممرضة فتجلس يسارًا للحديث فى الهاتف ومن يأخذ العينة هى موظفة دون ارتداء قفاز طبى وليست على درجة طبيب أو ممرض حسب الاشتراطات، فتقول »انا اتعلمت أخذ العينات عشان اساعد والموضوع سهل وبسيط ومفيهوش مشكلة». وتصادف وجود معدى التحقيق إحدى المتبرعات منتقبة جلست على السرير المجاور حاولت الموظفة إجراء عملية سحب العينة ففشلت فى ذلك فاستدعت موظف آخر من المختصين باقناع المواطنين بالتبرع ففشل أيضًا، فاستدعوا الطبيبا الواقف دائمًا خارج الكرافان.

يبرر الطبيب لمعد التحقيق عدم اعطائه الاستمارة للمتبرع لكتابتها، لتكدس المواطنين فى المترو واستعجالهم دائمًا، وانه يسأل عن بعض الأمراض فى الاستمارة التى تمنع التبرع، لكن ذلك يتعارض مع ما حدث أثناء استقباله لمعدى التحقيق. يحاول خلال حديثه مع معد التحقيق باقناعه بالتبرع رغم القول بالقيام بالتبرع منذ شهر، ليقول لا مشكلة فى التبرع رغم مخالفته للاشتراطات التى تقتضى التبرع بالدم كل 3 أشهر.

وأضاف الطبيب أنه يجد صعوبة فى إقناع المواطنين بالتبرع، ولذلك يحاول انهاء الإجراءات وعملية التبرع فى وقت قصير، وأن المواطنين يحجمون عن التبرع لثلاثة أسباب هى الخوف من العدوي، والخوف من الحقن، وعدم الثقة فى أماكن التبرع وظنهم بأن أكياس الدم لا تصل للمستحقين.

قرابة ربع ساعة يمتلئ الكيس الملقى على الأرض هو الآخر يمتلئ الكيس عن آخره ليصبح منتفخًا، قمنا بالنداء على الأطباء لسحب الحقنة »طيب طيب أنا جاية» وبالفعل قامت الموظفة بسحبها واعطائنا علبة عصير وحملت »قربة» الدم ووضعتها فى صندوق دون تدوين بيانات المتبرع عليها أو نسبة تحليل الهيموجلوبين.. كانت نتيجة عدم مطابقة الاشتراطات شعور معدة التحقيق بالدوار الشديد والغثيان وخفقان بالقلب والشعور بالتعب مع بذل جهد قليل بعد سحب الدم على مدار 10 أيام.

ليس الكرفان الوحيد الذى يخالف الاشتراطات الصحية ففى جولة لـ »الأخبار» على الحملات الميدانية للتبرع بالدم فى محافظتى القاهرة والجيزة، تفقد معدا التحقيق خمس حملات متنوعة بين محطات مترو الأنفاق أو الكائنة فى الميادين سواء فى  منطقة السيدة زينب أو العتبة ورمسيس لكن الأمر لم يختلف كثيرًا عما تم رصده بكرافان مترو جمال عبدالناصر.

يؤكد ما شهده معدا التحقيق،  محضر حررته المهندسة ميرفت حجازى يحمل رقم 41/62، قسم رابع مترو الأنفاق جاء فيه أن الحملة لم تراع  معايير واشتراطات التبرع فلم يسأل أعضاء حملة التبرع عن معاناتها من أى مرض أو قياسهم للضغط أو السكر وكذلك المكان الكائن به الكرافان مهمل وهو ممر يؤدى إلى دورات المياه بالمحطة وكذلك عندما طلبت بطاقة الهوية لم تكن مختومة، مدعين أنهم تابعون لأحد بنوك الدم الكبري، لتكتشف فيما بعد أن من سحب منها العينة حاصل على بكالريوس تجارة وأنهم لا صلة بينهم وبين بنك الدم الشهير هم فقط متطوعون تابعون لمستشفى خاص ينتحلون صفة تبعيتهم للبنك الكبير لتشابه الأسماء.

وقائع المخالفات لم تكن فردية فقد حصلت »الأخبار» على 10 شكاوى (مكتوبة) من أصل 50 متبرعا فى حملات الدم الميدانية تتهمها بأنها المتسبب الرئيسى فى نفور المتبرعين وعدم ثقتهم فى عملية التبرع تتراوح الشكاوى بين عدم ملئهم أى استمارة للبيانات أو السؤال عن بطاقاتهم الشخصية مما أفقدهم المصداقية فى مصير الدم المتبرع به، كذلك طريقة التعامل مع المتبرع حيث تعرضت إحدى المتبرعات إلى ملاحقة من أحد القائمين على حملة ميدانية للتبرع بالدم فى محطة مترو العتبة رغم إخباره أنها تعانى من الأنيميا فرد بأنها تتهرب منهم وأنها سليمة قائلة »أسلوب منفر وفعلا عندى أنيميا وبيكدبنى والمفروض يشوفوا أسلوب أفضل من ذلك يتعاملوا بيه».

 

مخالفات واضحة

ما رصدناه ميدانيًا ومن خلال حالات أكدت مخالفة الاشتراطات فى حملات الدم الميدانية كانت دافعًا للمختصين بالأمر لمعرفة مدى مخالفتها للاشتراطات الصحية ومراعاتها لآداب وقواعد جذب المتبرعين بشكل لائق، فتؤكد رئيس قسم رعاية المتبرع بالمركز القومى لنقل الدم التابع لوزارة الصحة أن الحملات الميدانية تتكون من طبيب وتسجيل طبى وتمريض ومساعد تمريض وموظف تحفيز وعامل وسائق، وأن جميعهم حصلوا على دورات تدريبية للتعامل مع الجمهور فى الشارع، وأن من يأخذ العينة من المتبرع لابد أن يكون الطبيب أو الممرض، وكذلك التسجيل الطبى يحرص على تسجيل البيانات والرقم القومى حتى يسهل التواصل مرة أخرى مع المتبرع فإذا كان يعانى من فيروس دون علمه يتم اخباره بعد فحص الدم أو التعاون معه ليكون متبرعا منتظما وكذلك لضمان وصول الكيس للمستحقين.

وتضيف أن هناك اشتراطات ضمنها أن يكون مر على حشو الأسنان او العمليات الجراحية 6 أشهر على الأقل حتى يتسنى للفيروس حالة وجوده نتيجة لحشو الأسنان او اجراء عمليات جراحية أو فتح خُراج الظهور لأن التحاليل لا تكشف الفيروسات قبل هذه المدة حتى لو اجرى تحليل الحمض النووى والـP»ک  لكيس الدم المتبرع به، وكذلك أن يمر على تناول المضاد الحيوى 3 أيام على الأقل وبالطبع عدم معاناته من الضغط أو السكر أو أى نوع من الفيروسات والأنيميا وكذلك ألا يقل عمر المتبرع عن 18 عاما ولا يزيد على 60 عاما، ويصل حجم الكيس من 450 إلى 550 مجم و سعره 180 جنيها ومدعم من الدولة بمبلغ 400 جنيه.

وتؤكد أن هناك نقصا حادا فى عدد العربات الذى يبلغ 100 سيارة تغطى كافة المحافظات وتحتاج 50 سيارة إضافية على الأقل للتغطية الجيدة خاصة فى محافظات الحدود وبورسعيد ودمياط والفيوم والسويس، موضحة أن معظمها يعانى من التهالك وتحتاج إلى التحديث خاصة أنها لم تحدث منذ عام 2010 وتحتاج ضعف العدد الموجود ، وكذلك هناك معاناة من نقص شديد فى الأطباء الذين يبلغ عددهم بالبنك 12 طبيبا فقط وقسم التبرع 3 اطباء فقط وتحتاج إلى 7 أطباء آخرين على الأقل  وتجمع سنويًا 500 ألف كيس دم أى ثلث تجميع الدم فى مصر، مطالبة بضرورة وجود تكليف إجبارى للأطباء للخدمة فى بنوك الدم حيث أن معظمهم يتهربون من العمل الميدانى لمشقة التعامل مع الجمهور فى الشارع، وهو الأمر الذى أكده أيضًا مدير بنك الهلال الأحمر بنقص عربات التبرعات وأنه يحتاج إلى خمس عربات إضافية بجانب الأربع عربات الأخرى الموزعة على 4 محافظات مصرية يغطيها بنك الهلال ليصل إنتاجه إلى ١٤% من إنتاج أكياس الدم فى مصر بدلا من 8% .

وتضيف د. رحاب عمر، رئيس قسم الصرف بالمركز القومى لنقل الدم، أن مرضى الفشل الكلوى والأورام وأنيما البحر المتوسط والهيموفيليا هم الاكثر عرضة للإصابة بالفيروسات نتيجة نقل الدم ويتم صرف أكياس الدم لهم على الفور خاصة لأصحاب الفصائل النادرة مؤكدة أن هناك متبرعين منتظمين ومتبرعين يتم التواصل معهم فى حالات الطوارئ لسد العجز.. وتضيف رئيس قسم الصرف أن عدم الوعى بفكرة التبرع بالدم أكبر مشكلة تواجه البنوك وغياب ثقافة التبرع وأن المركز القومى لنقل الدم يراعى جودة دم المتبرعين وسلامتهم.

 

الأجهزة لا تكفي

وفى جولة لـ »الأخبار» داخل المركز القومى لنقل الدم حيث تمر عملية التبرع وتنقية الدم بأربع مراحل أولها مرحلة التسجيل للتبرع وثانيها مرحلة إعداد الفصائل (تحليل الأجسام المضادة) ثم المرحلة الثالثة وهى تحاليل الفيروسات (سي+ بى + إيدز+ الزهري) وأخيرًا مرحلة فصل المشتقات (الدم والبلازما والكرايو).

 وفى معمل تحاليل الفيروسات تجيب ديانا عبدالله، أخصائى طب نقل الدم ونائب رئيس قسم السورلجى ومسئول قسم الجودة بالبنك، على سؤال معدى التحقيق هل هناك نسبة خطأ فى تحاليل الفيروسات؟ بأن نسبة الخطأ موجودة لكن قليلة وللتغلب عليها يتم عمل ما يسمى عينات معايرة جودة وذلك بأخذ عينة من دم به أقل نسبة لكل فيروس ووضعها على جهاز تحليل الفيروسات واذا تم اكتشافها فان الجهاز يعمل بكفاءة واذا لم يقم الجهاز بكشفها يكون هناك خطأ ويتم ذلك اكثر من مرة فى اليوم، بالإضافة إلى الصيانة اليومية من قسم الجودة والدورية من الشركة المصنعة للاجهزة، ويجب اجراء التحليل النووى للدم بدلا من تحليل الأجسام المضادة التى لا تكتشف الفيروسات.

 

لم يختلف د. وحيد دوس، رئيس اللجنة القومية لمكافحة الفيروسات الكبدية وأستاذ الكبد بكلية طب جامعة القاهرة، مع ما أكده المسئولون السابقون، فيرى ان عملية نقل الدم تمثل عامل خطورة واختبارات الفيروسات التى تتم على اكياس الدم مهما بلغت دقتها لا تصل نسبة اكتشاف الفيروسات  الى 100%، ويرجع »دوس» سبب الإصابة بالفيروسات  إلى أن  معظم بنوك الدم والمعامل تجرى تحاليل  kits »الاجسام المضادة» لانخفاض ثمنها وهى تحاليل غير دقيقة لا تكون  نسبة دقتها 100%، بدلا من التحليل النووى pcr  لأكياس الدم لكنه مرتفع الثمن ومكلف جدا، ويرفع ثمن كيس الدم  من 400 إلى 500  جنيه على ثمنه الأصلي، وأن علاج المصابين بفيروس سى فى الفترة الحالية يقلل من نسبة العدوى فى أكياس الدم ويعد أفضل وسيلة لمكافحة العدوي.

 

 الرقابة مشتتة

خلال رحلة البحث عن القانون المنظم لعمليات نقل الدم والتبرع وصلنا للقانون رقم 178 لسنة 1960، الذى أصدره الرئيس جمال عبد الناصر ووافق عليه مجلس الأمة آنذاك (مجلس النواب حاليا) وهو القانون الذى ينظم جمع وتخزين الدم ومركباته ، ويقرر الاحتياطات الواجب اتخاذها عند التبرع بالدم أو صرفه للجهات التى تطلبه، إلا أنه لم تُجر على مواده العشر أى تعديلات من وقتها،  ولم يصدر أى قانون آخر ينظم ويوحد سياسة نقل الدم أو بنوك الدم ذاتها، كذلك لا تخضع بنوك الدم فى مصر لجهة تنفيذية ورقابية واحدة، ما يتسبب فى عدم وجود منظومة موحدة لنقل الدم أو الرقابة عليها.

وهذا ما يؤكده النائب تادرس كلدس عضو لجنة الصحة بالبرلمان، الذى نادى بتعديل القانون الحالى الذى وصفه بأنه لم يعد مناسبًا للعصر وغير رادع لتطبيق الاشتراطات الصحية أثناء عمليات نقل الدم وكذلك غير رادع للتجار الذين يبتاعون الدم للمستشفيات الخاصة من أجل الربح مما أدى إلى فقدان ثقة المواطنين فى كثير من جهات التبرع وإحجامهم الأمر الذى أدى إلى نقص أكياس الدم فى البنوك وانخفاض ثقافة التبرع وتلاشيها.

»اقترحت تشديد عقوبة من يتاجر فى الدم ويبيعه إلى السجن المؤبد 25 عاماً»، هكذا أكد عضو لجنة الصحة على مطالبه من أجل ردع تجار الدم وكذلك بأن يشمل تعديل القانون جميع مواده وإضافة مواد اخرى تنظم عملية التبرع بالدم والاشتراطات الصحية للتبرع والنقل بالدم وعقوبات فى حال مخالفتها.. ويرجع »تادرس» سبب عدم تطبيق الاشتراطات الصحية إلى رغبة بنوك الدم والمعامل فى تجميع أكبر قدر من أكياس الدم لبيعها دون مراعاة الاشتراطات الصحية بسبب النقص فى التبرع.

وينص القانون فى مادته العاشرة على  معاقبة كل من يخالف أحكام هذا القانون بغرامة لا تقل عن عشرين جنيها ولا تجاوز مائتى جنيه –قاصدا أصحاب بنوك الدم ومن يحملون رخصة بنوك الدم دون الأطباء والتمريض والعاملين فى البنك- فضلا عن جواز الحكم بمصادرة الأجهزة والأدوات والمهمات موضوع المخالفة، ويجوز فضلا عن ذلك إغلاق المركز إداريا إذا أدير من غير ترخيص أو بدون إشراف طبيب أو دون مراعاة الاشتراطات الصحية التى يحددها القرار الوزاري.

ورغم ذلك ترى د. سمية عبدالمنعم مدير عام إدارة بنوك الدم بوزارة الصحة أن القانون ليس فى حاجة إلى تعديل فى الوقت الحالى ويتم العمل به وينظم عملية نقل الدم.

وأضافت عبدالمنعم، أن مخالفة الاشتراطات تؤدى إلى كوارث، فعدم  مرور 6 أشهر على إجراء العمليات الجراحية وخلع و حشو الضروس  للمتبرع يؤدى إلى نقل الفيروسات سواء سى وبى ونقص المناعة الإيدز من الدم المتبرع به إلى المرضى لعدم اكتشافها أثناء تحليل العينات بالمعامل المركزية.

ورغم ذلك أوضحت مدير عام إدارة بنوك الدم أنه لا توجد جهة واحدة فى الدولة لتنظيم عملية نقل او التبرع بالدم او الرقابة على العمليتين السابقتين، حيث ان كل بنك دم يراقب عليه الجهة التابع لها، فالبنوك فى المستشفيات الحكومية العامة تراقب عليها إدارة بنوك الدم بوزارة الصحة، وبنوك الدم الاقليمية وعددها 28 يراقب عليها الجهة التابعين لها وهى أمانة المراكز الطبية المتخصصة بوزارة الصحة، وبنك الدم التابع  للشركة المصرية لخدمات نقل الدم » تراقب عليها الشركة. وبنوك الدم فى المستشفيات الجامعية تراقب عليها وزارة التعليم العالي، وبنوك الدم الخاصة تراقب عليها الادارة المركزية للتراخيص والعلاج الحر بوزارة الصحة.

وأعلنت د.هالة زايد وزيرة الصحة والسكان فى 7 نوفمبر الجارى خلال زيارتها لبنك الدم الإقليمى بالعجوزة خطة تطوير شاملة لمراكز الدم الإقليمية (28 مركزا) بكل المحافظات ميكنة مراكز نقل الدم غير المميكنه، ورفع الكفاءة الانشائية لقاعات التبرع ونشر ثقافة التبرع بهدف توفير البلازما ومشتقات الدم.

ماتت أميرة ومازال اسلام وبيشوى وسمر يدفعون ثمن الإهمال فى انتظار اصدار قانون يعيد حقوقهم وتشديد الرقابة على المخالفين للاشتراطات الصحية.

 

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي