«الأخبار» في دار رعاية الأحداث.. مآسي الصغار خلف القضبان

«الأخبار» في دار رعاية الأحداث.. مآسي الصغار خلف القضبان
«الأخبار» في دار رعاية الأحداث.. مآسي الصغار خلف القضبان

-  مراكز مجهزة لإعادة تأهيل الأحداث بإشراف من «التضامن» و«الداخلية»


-  مسئولو الدار: جلسات نفسية ودينية للنزلاء ودعم خاص للطلاب


- خبراء علم النفس والاجتماع: سلاح ذو حدين.. وتحتاج إلى متخصصين


رغم جرائمهم لكنهم فى النهاية ضحايا، ذنوبهم لا تشبه براءة أصحابها، هم الجانى والمجنى عليه فى آن واحد، والمتهم والضحية فى الوقت نفسه، إنهم أطفال الأحداث، أو كما يعرفهم مجتمعنا بالمجرمين الصغار، تلك الفئة العمرية التى كتب عليها أن ترى الوجه القبيح للحياة مبكرا، فالبرغم من كونهم مرتكبى جرائم شنعاء إلا أنهم ضحايا هذه الجرائم إما بالدوافع أو بالأسباب أو بالنتائج.

 

هؤلاء الأطفال يحتاجون لإعادة تأهيل نفسى واجتماعى ليستعيدوا فطرتهم الطيبة حتى لا تنمو بذرة الشر داخلهم، وهو الدور الذى تقوم به الآن دور رعاية الأطفال فى مبادرة أطلقتها وزارة التضامن بالتعاون مع وزارة الداخلية ومؤسسة الهلال الأحمر لاستضافة الأطفال الذين لم يتم الحكم فى قضاياهم، وهذه الخطوة أشادت بها الكثير من منظمات حقوق الطفل المحلية والعالمية.

 

«الأخبار» قضت يوما وسط الأطفال قيد التحقيق فى أحد دور الرعاية بمحافظة القليوبية لتنقل بالكلمة والصورة مأساة هؤلاء الأطفال ولمعرفة الدور الذى تقدمه هذه المراكز فى التأهيل النفسى والاجتماعى لأطفال الأحداث كما ناقشت الخبراء فى أهمية هذه الدور فى التخلص من النبتة الإجرامية التى قد تهدد مجتمعا بأكمله إذا اكتمل نموها.


المركز يشبه فى وصفه البيوت السكنية الواسعة التى تتكون من أكثر من طابق، وربما ما يختلف فى الوصف هو الأسوار الحديدية العالية التى تحيط بالمكان تأميننا لهؤلاء الأطفال من محاولات الهرب التى دائما ما يناوبهم التفكير بها، خطوات من بوابات الدخول وانتقالا إلى غرف الأطفال تجدها أشبه بعنابر المرضى.

 

 تصطف أسرة الأطفال بجانب بعضها البعض ولا تخلو الغرفة من بعض مظاهر الترفيه مثل شاشات التلفاز وبعض الألعاب البسيطة ، أبواب الغرف مصممة على هيئة الزنازين حيث الأبواب الحديدية العريضة ذات الشراع الحديدى المفرغ، والذى يتحدث الأطفال من ورائه، هذا التصميم الذى يحاول الجمع بين هدوء المنزل ووحشة السجن أيضا حتى لا يخلو الأمر من الجانب العقابي.


مآسى الأطفال


أما عن الأطفال فقد تنوعت مآسيهم وحكاياتهم التى يندى لها الجبين، والمؤسف أن بعض هذه الحكايات كان بدافع نبيل تحول فى النهاية إلى جريمة ليست متوقعة، وهو الجزء الأكثر حزننا فى الحكاية فهذه الفئة مازالت تجهل ما لها وما عليها وما زالت لا تعبأ بالعواقب ولا تستطيع أن تحسبها.


«أحمد» أول الحالات التى التقينا بهم فى دار الملاحظة والرعاية، وهو طفل لا يتعدى عمره العشر سنوات، رحب بنا ترحيبا شديدا عند الدخول ولم يحاول تجنبنا مطلقا، ولكنه كان يتجنب الحديث عن مأساته ربما لشعوره بالذنب أو بالخجل، وربما لأنه يريد الحفاظ على صورته أمامنا، كان أغلب حديثه عن حبه لوالده ووالدته وعن طرائفه مع إخوته، تميزت كلماته بالمرح الشديد رغم الحزن الذى يكسو عينيه.

 

اقتربنا شيئا فشيئا من مأساة «أحمد» حتى اطمأن وبدأ فى الحديث قائلا: «تركت مدرستى بسبب كرهى لمعلمتى التى كانت تتعمد صفعى يوميا ولا أدرى لماذا كانت تعاملنى بهذه الطريقة بالرغم من أننى كنت دائما أحاول تنفيذ كل ما تطلبه، حتى قررت أن أترك مدرستى وأن أتعلم حرفة أستطيع أن أحصل بها على نقود تجلب لى كل ما أريده أنا وأخوتى، عارضنى والدى فى البداية ولكننى صممت على رأيى».

 

يضيف: «بدأت أنزل لسوق العمل أبحث عن حرفة، فعملت فى البداية «جزمجى» ثم عامل نقاشة، ثم «سباك» بدأت فى هذه الأثناء اختلط بكل فئات الشارع وأصبحوا هم كل أهلى حيث كنت لا أعود للمنزل سوى متأخر جدا، وفى يوم كنت عائدا إلى منزلى وبعد أن ركبت الميكروباص كان لم يكتمل أعداد ركابه فجلست أنتظر اكتمال أعدادهم، وكان السائق يعرفنى جيدا فترك سجائره وبعض أشيائه فى السيارة ووقف بالخارج، وطلب منى أن اعتنى بأشيائه حتى يعود».

 

يقول أيضا «ثم حضر أحد اصدقائى وركب بجانبى فى الميكروباص وحين وجد علبة السجائر التى تركها السائق، أراد ان يأخذ منها سيجارة فرفضت وطلبت منه أن يستأذن السائق أولا ربما يوافق على ذلك، فرفض صديقى، وصمم أن يأخذ السجائر عنوة، فأخبرته أن السائق تركهم معى أمانة وسوف يحاسبنى عليها، ومع احتداد الشجار بيننا اخرج صديقى «المطوة» من جيبه وأراد أن يجرح يدى كى تفلت منها علبة السجائر.

 

فيختم حديثه «استطعت أن آخذ علبة السجائر من يده، ولم اقصد مطلقا إيذاءه ولكن عنف شجارنا ادى لأن اقطع يده دون أن اقصد حتى امتلأ المكان بالدماء ومنذ ذلك الحين وقد أصبحت مجرما أعاقب على ما فعلت، رغم أننى كل ما فعلته هو أننى حافظت على سجائر السائق التى تركها فى أمانتى»، ثم صمت لبضع دقائق، وعاد يتساءل مستنكرا، اليس الحفاظ على الأمانة فضيلة؟!


أما «محمود» الطفل الذى بلغ من العمر 13 عاما، فكان لا يرغب بالحديث معنا مطلقا، وانزوى فى سريره لا يكلم احدا، حاولنا الحديث معه بشتى الطرق، ولكنه رفض تماما ، وابدى استياءه الشديد منا ، فخضعنا لرغبته بعد ان علمنا من الأخصائى النفسى للدار انه يعانى من أزمة نفسية إثر مأساته وهو ما جعله يرفض الحديث مع اى احد منذ ان دخل الدار حتى زملائه لا يتعامل معهم ، واخبرنا انه متهم فى قضية قتل اخيه الأصغر ، حيث ألقاه بقطع رخامية وهو يمزح معه تسببت له فى قطع جذع المخ مما ادى إلى وفاته، ولكن ملابسات القضية لا يعرفها احد والطفل يخضع للعلاج النفسى حتى الآن.


كاميرات

 مراقبة
توجهنا إلى مشرفى الدار ليحكوا لنا تجربتهم، يقول وليد فاروق اخصائى اجتماعى ومدير دار الملاحظة والرعاية ان المبنى تبرعت به احدى السيدات الثريات لوزارة التضامن وتم تجديده وتجهيزه وافتتاحه فى عام 2012 ليستقبل الاطفال الاقل من 18 عاما الذين مازالوا على ذمة قضايا واضاف مدير الدار ان المبنى مكون من طابقين ، الطابق الاول يشمل الادارة والمطبخ والمغسلة وحجرة الاخصائيين ومدير الدار.. وبه «عنبر رقم 1» ويضم 10 اسرة اما عن الطابق الثانى فيتكون من عنبرين كل عنبر به 20 سريرا ومخزنين وحجرة للطعام والمبنى به 32 كاميرا مراقبة موزعة على الدار شاملة عنابر الاطفال ايضا.


ويشير مدير الدار إلى أن اغرب القضايا التى تم تأهيلها كان طفلا فى المرحلة الابتدائية قام بإلقاء البنزين على زميل له واشعل النيران به ومكث فترة للعلاج بالمستشفى لان نسبة الحروق كانت كبيرة ولكنه توفى متأثرا بحروقه ومكث الطفل 3 أشهر على ذمة القضية واتضح من تحقيقات النيابة انه كان يمزح معه ، وأخلى سبيله ويضيف من الحالات الغريبة ايضا طفل التحق بالدار من فترة قريبة يدعى الشربينى لديه 13 عاما وهو مصنف من الاطفال شديدى الخطورة لانه حاول اكثر من مرة قتل طفل اخر معه بالعنبر وحاول التعدى على احد المشرفين بأجزاء السرير وارسلت تقريرا انه يجب وضعه داخل عنبر منفرد لعدم القدرة على التعامل معه، وبعدها اصدرت النيابة قرارا بايداعه بقسم بنها تجنبا لاحداث اضرار باى احد من زملائه.


وزارة التضامن


اما عن دور وزارة التضامن فقد اكدت فاتن جودة مديرة ادارة الدفاع بمديرية التضامن بالقليوبية ان وزارة التضامن قامت بتجهيز الدار لاستقبال الاطفال وهناك اشراف دورى على كل كبيرة وصغيرة تدور بالدار ويتم خلاله رفع تقرير إلى الوزارة بخطة سير العمل بالدار وذلك بالتعاون مع هيئة الهلال الأحمر.

 


وأشار عفيفى الفرماوى المسئول عن جمعية الهلال الاحمر بالمحافظة إلى ان مشروع رعاية الاطفال الاقل من 18 سنة وعلى ذمة قضايا مسند من وزارة التضامن إلى الجمعية مؤكدا ان جمعية الهلال الاحمر بالقليوبية هى المنوطة بجميع الامور المالية والتنظيمية والاشرافية والتنفيذية بالدار واوضح الفرماوى انه لايتم استلام الاطفال الا بقرار من النيابة عن طريق محضر رسمى ويوقع عليه الاخصائى الاجتماعى بالاستلام ثم يتم تفتيش الطفل والنظر على جميع اجزاء جسده ثم تسليمه غيارات داخلية وفوطة وبطانية وكوفرته والاشراف على نظافته بالاستحمام قبل دخوله العنبر.

 

ويتم تقديم ثلاث وجبات يوميا وأضاف انه يتم عقد جلسات اجتماعية مع الطفل يوميا عن طريق الاخصائيين الاجتماعيين ويتم مناقشته عن حياته واسرته وتعليمه واسباب القضية المتهم بها ثم يتم رفع هذه التقارير من 3 اخصائيين إلى مدير الدار. مشيرا إلى انه يتم عقد جلسات اخرى مع الطفل والاخصائيين ليتم رفع التقرير النهائى عن الطفل الذى تطلبه النيابة لمساعدتها فى التحقيق.

 

 وأوضح مدير الدار أن زيارة أهالى الأطفال بقرار من النيابة ويتم خلالها الجلوس مع الاب والام لمناقشتهما لمعرفة ملابسات واقعة طفلهما وسؤالهما عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية وهل هناك امور مؤثرة على الطفل ثم رفع التقرير مع ملف الطفل ويقول احد الاخصائيين بالدار «يتم اعادة وتأهيل الاطفال على ذمة قضايا «دينيا ونفسيا واجتماعيا» ويعقد جلسات مستمرة لاشراكهم فى الانشطة المتمثلة فى الرسم والالعاب ليصبح صالحا فى المجتمع.

 

 وأضاف يتم شرح وتبسيط المناهج الدراسية الخاصة بالاطفال الذين لازالوا فى مراحل التعليم عن طريق الاخصائيين والمشرفين بالدار وعند الامتحانات يتم اخطار النيابة بان الطفل سوف يؤدى امتحانات اخر العام وهى الجهة الوحيدة المنوطة باصدار امر الدخول والخروج للاطفال فى الدار كما يتم الاستعانة باحد الشيوخ من المساجد القريبة بالاتفاق مع الدار لاعطاء الدروس الدينية للاطفال.


اما عن آراء الخبراء فى اهمية التأهيل النفسى والاجتماعى فأكد د. ماهر الضبع استاذ علم النفس بالجامعة الأمريكية «ان إعادة التأهيل النفسى للأطفال مرتكبى الجرائم امرا ليس بسهل ولكنه ليس مستحيلا ، ولكن هذا التأهيل يكون بمثابة العلاج الذى يحتاج إلى متخصصين يفهمون عملهم جيدا ويجيدون التعامل مع اضطرابات الشخصية التى قد تكون دافعا للجريمة او نتيجة.

 

ويضيف «إنها تجربة قاسية جدا عليهم وقد يكون أغلبها بالخطأ وليس مقصودا وهو مايؤدى بدوره إلى تدمير نفسية الطفل، ولذلك فهذه المراكز قد تكون سلاحا ذو حدين، فحين يكون القائمون عليها متخصصين فى عملهم يجيدون التعامل مع هذه الفئة يستطيعون ان يعيدوا برمجتهم ويمكنوهم من تخطى هذه التجربة حتى تتلاشى تدريجيا من ذاكرتهم ، اما إذا كانو غير متخصصين بالقدر الكافى فقد يعود هذا بالضرر على الأطفال بل وينمى فيهم العنف والإجرام».


إساءة التنفيذ


ومن جانبها اضافت د. سامية خضر استاذ علم الاجتماع « ان هذه التجربة ليست حديثة على مصر وليست مبادرة من اليونيسيف كما يدعى البعض ، بل ان مصر من رواد هذه التجربة ، ولكن المشكلة فى بعض المراكز التى اساءت تنفيذ التجربة حين قرروا التعامل مع هؤلاء الأطفال على انهم مجرمون مما رسخ فيهم الإحساس بالجريمة ومن ثم تصبح شيئا مألوفا الأمر الذى يشكل خطورة بالغة على المجتمع بأكمله حيث تساهم بشكل رئيسى فى تنمية دوافع الانتقام ومن ثم صناعة مجرم ، موضحة ان دور الإخصائى الاجتماعى هو إعادة تأهيل هذا الطفل وإخراجه صالحا للمجتمع.