ورقة وقلم

ياسر رزق يكتب: الخطر الكامن في كل بيت!

ياسر رزق
ياسر رزق

ربما لا نجد بين شعوب الأرض من تغمره السعادة، كلما سمع بارتفاع عدد سكان بلاده، أكثر من الشعب المصري!


زيادة عدد السكان في موروثنا الاجتماعي مصدر للاعتزاز والفخر، تماماً مثل كثرة الإنجاب في الأسرة، ينظر إليها على أنها «عزوة» أو «سند»، ودافع للمباهاة.


ترتيبنا بين الدول من حيث عدد السكان هو الثالث عشر.


هذه المنزلة هى الأرفع التي تحتلها مصر في أي تصنيف للأمم.


بينما نحن- على سبيل المثال- في المرتبة ١٢٤ بين دول العالم من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي.


هناك ارتباط بين المسألتين.


فكلما ارتفع معدل الزيادة السكانية، انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي، والعكس صحيح.


أي أن معدل النمو الاقتصادي يتآكل بزيادة معدل النمو السكاني، ومن ثم لا يشعر الشعب بمردود التنمية، حتى لو كانت معدلاتها تزداد بنسب معقولة.

 

< < <

 

في الحالة المصرية.. زادت وتيرة ارتفاع معدل النمو الاقتصادي في السنة المالية الماضية «٢٠١٧/٢٠١٨» ليبلغ ٥٫٣٪، بينما معدل النمو السكاني بلغ ١٫٩٪ خلال نفس الفترة، وفقا لتقديرات البنك الدولي.

 

ذلك يعنى أن معدل النمو الحقيقي لا يزيد على ٣٫٤٪، رغم كل الجهود المضنية المبذولة في حركة البناء والعمران.

 

صحيح أن نسبة الزيادة السكانية «الفرق بين المواليد والوفيات» شهدت انخفاضا خلال الفترة الأخيرة، بالنظر إلى أن متوسطها كان يبلغ ٢٫٥٦٪ في غضون الفترة من ٢٠٠٦ إلى ٢٠١٧ طبقا لإحصاءات التعداد السكاني الأخير. لكن مازال معدل النمو السكاني (١٫٩٪) مرتفعا للغاية بالقياس لدول العالم المتقدم (الولايات المتحدة ٠٫٧٪ - الصين ٠٫٦٪- بريطانيا ٠٫٦٪- ألمانيا ٠٫٤٪).

 

بل إن المعدل المصري أعلى بكثير من دول مقاربة لأحوالنا الاقتصادية والاجتماعية (تركيا ١٫٥٪- إيران ١٫١٪- المغرب ١٫٣٪- اندونيسيا ١٫١٪).

 

بنهاية هذا العام سيكون عدد سكان مصر في حدود ٩٧ مليون نسمة، وسيزيد إجمالي عدد المصريين في الداخل والخارج على ١٠٥ ملايين نسمة.
تعدادنا يزيد نحو مليوني نسمة سنويا، أي أننا نزيد بما يوازى عدد سكان سنغافورة كل ١٨ شهرا.

 

لو استمرت الزيادة بهذه المعدلات، سيقفز تعدادنا إلى ٣٣٩ مليون نسمة بحلول عام ٢١٠٠، أي ما يزيد على ٣ أمثال التعداد الحالي.

 

< < <

 

بوضوح أكثر..

 

معدل الإنجاب في مصر ٣٫٥ طفل لكل أسرة.

 

إذا استمر هذا المعدل سيصل عدد السكان إلى ١٢٨ مليونا بحلول عام ٢٠٣٠.

 

لو زاد المعدل إلى ٤ أطفال للأسرة، سيقفز التعداد إلى ١٤٠ مليونا، أي أن الفرق بالزيادة (٢٢ مليونا) يعادل تعداد السويد والنرويج والدنمارك معاً!

 

بينما لو انخفض معدل الإنجاب إلى ٢٫٤ طفل لكل أسرة، سيبلغ عدد سكان الداخل ١١٢ مليون نسمة.

 

إذن خفض معدل الإنجاب الحالي (٣٫٥ طفل للأسرة) والالتزام بمعدل إنجاب معقول (٢٫٤ طفل) من الآن وحتى عام ٢٠٣٠، سيؤدى إلى انخفاض في تعداد السكان المتوقع بنحو ١٦ مليون نسمة، وهو ما يعادل سكان هولندا التي تؤكل العالم من أصناف جبنها وزبدها، وتعطره  بزهور التوليب وتمتعه بأداء منتخبها البرتقالي!

 

< < <

 

عندنا من يرى الإنجاب، مسألة شخصية تتعلق بالزوجين أو الأسرة، ولا شأن لأحد بها.

 

وعندنا من يظن أنه مادام مقتدرا وقادرا على الإنفاق، فلينجب ما يشاء ولو دستة أطفال.

 

وهناك من يحتج بالحديث الشريف القائل: «تناكحوا.. تناسلوا.. أباهى بكم يوم القيامة».

 

الثلاثة ليسوا على حق في شيء.

 

فتنظيم الأسرة، شأن من شئون الدولة لا أن تتخذ فيه ما تراه من تدابير تحقق صالح المجتمع وتتلافى ما يضير جموع الناس.

 

أما المقتدر، فليس له أن ينجب كيفما يريد، ذلك أن كل مولود ينجبه، يلقى بأعباء على المجتمع يتحملها ويسدد نفقاتها، سواء فى المرافق أو الخدمات من طرق ومياه شرب وصرف صحي ومستشفيات وإسكان وأوجه دعم وغير ذلك.

 

وليس ثمة شك في أن الرسول - عليه أفضل الصلاة والسلام- لا يقصد المباهاة بكثرة من الناس كغثاء السيل، يغلب عليها الجهلاء والمرضى والضعفاء.

 

على أن التأثير الحقيقي على الاقتصاد من جراء الزيادة السكانية (الفرق بين معدل المواليد ومعدل الوفيات)، يتضح أكثر إذا نظرنا لمعدل المواليد.

 

وفى مصر.. يبلغ معدل النمو السكاني كما ذكرنا ١٫٩٪، بينما معدل المواليد يبلغ ٢٫٣٥٪.

 

وبالتأكيد فإن احتساب الأعباء المترتبة على الزيادة السكانية، لابد وأن يتأسس على القادمين الجدد من المواليد.

 

فهم الذين سوف تجهز من أجلهم الأمصال وألبان الأطفال وتُعد لهم فصول المدارس وأسرة المستشفيات، وتُزاد طاقات شبكات المياه والصرف والكهرباء، وصولاً إلى توفير فرص العمل بعد تخرجهم من التعليم.

 

وإذا كنا اليوم نتحدث عن توفير فرص تشغيل لنحو مليون شاب سنوياً يدخلون إلى سوق العمل في كل عام، ويكلفون الدولة قرابة ١٠٠ مليار جنيه لتتاح لهم فرص العمل والرزق، فما بالنا عندما يكون المطلوب خلال سنوات قليلة قادمة هو توفير مليوني فرصة عمل سنويا للقادمين الجدد من الخريجين، وكيف يمكن توفير المبالغ المطلوبة لتوفير هذه الفرص في الصناعة والزراعة والخدمات؟!

 

ناهيك عن التكلفة الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن الأعباء الضرورية المطلوبة لكل مولود، بدءا من علبة لبن الأطفال المدعمة وهو رضيع، وحتى شقة الإسكان الاجتماعي المدعمة عندما يشرع في الزواج وهو شاب!

 

< < <

 

بُح صوت الرئيس السيسي، وهو يتحدث عن الزيادة السكانية ومخاطرها على التنمية وعمليتها الجارية، وعلى مستقبل الوطن، والأجيال القادمة، دون أن نلمس صدى حقيقياً وعملاً ملموسا يجابه تلك المخاطر.

 

والحقيقة أن الرئيس السيسي ليس أول حاكم لمصر يتحدث عن زيادة معدل الإنجاب.. فقد سبقه كل حاكم تولى المسئولية، منذ عهد  جمال عبدالناصر الذي تحدث عن تحديد النسل، ثم عّدل المصطلح إلى تنظيم الأسرة، استجابة لعلماء الدين، وانشأ المجلس الأعلى لتنظيم الأسرة عام ١٩٦٦.

 

ومنذ ذلك التاريخ.. جرت محاولات معظمها كان مصيره الفشل، وبعضها أحرز قدرا من النجاح، بالذات في عهد المجلس القومى للسكان برئاسة د.ماهر مهران، ثم حدثت الانتكاسة، فيما بعد ثورة ٢٥ يناير وما صاحبها من تأثيرات اجتماعية.

 

وقبل أيام.. سمعت الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء يتحدث عن ان معاش تكافل وكرامة لن يغطى أكثر من طفلين للأسرة الواحدة بدلا من ثلاثة أطفال ابتداء من يناير المقبل، من أجل استخدام الحصيلة المتوفرة فى مد مظلة المعاش إلى أسر جديدة فقيرة ومحتاجة للدعم.

 

وأظن أن قرار رئيس الوزراء هو خطوة أولى في سياق منظومة متكاملة مدروسة للتحفيز على الأخذ بنموذج الأسرة الصغيرة.

 

ونحن من جانبنا في دار «أخبار اليوم»، سوف نعقد مؤتمرا خاصا بالزيادة السكانية وتنظيم الأسرة، بجمع المسئولين والخبراء وعلماء الدين والمتخصصين في مختلف المجالات ذات الصلة في حوارات تستهدف معاونة جهود الدولة في هذا الاتجاه. وأحسب أن المؤتمر سوف يعقد في فبراير أو مارس من العام الجديد، بعد مؤتمرنا الاقتصادي الخامس الذي سيعقد في ديسمبر المقبل، ثم مؤتمرنا الثاني لتطوير التعليم الذي سيعقد خلال شهر يناير.

 

ذلك الخطر الكامن في العقول وفى المنازل، لابد أن تتضافر لمجابهته كل الجهود الشعبية والتنفيذية والدينية والإعلامية، فلن يلمس الناس الثمار الحقيقية لعملية التنمية الجارية على أرض مصر، مادامت الزيادة السكانية تتسارع دون كبح أو لجام.