ياسر رزق يكتب: إشارات السيسى الحمراء!

الكاتب الصحفي ياسر رزق
الكاتب الصحفي ياسر رزق

هكذا تكلم الرئيس مع شباب العالم فى يوم الإثنين الطويل

سمعت الرئيس السيسى أمس الأول من الصباح إلى المساء.
يبدو الرئيس يشْتمُّ رائحة دخان، آتية من حيث لا حريق. يبدو أنه يرى ما لا يلوح لنا بعد.
النيران لم تنشب، لكن الرئيس يطلق إشارات تحذير حمراء، ينبه من خطر مقبل، بل مخاطر محدقة، ما لم يتحسب أبناء المنطقة العربية، فهناك من خارجها من ينظر إلى ما نالها من خراب، غير كاف، ولا يحقق له ما يروم؟
أحب أن أنصت إلى السيسى حينما يتكلم وهو يستشرف المستقبل.
هكذا كان وهو مدير للمخابرات الحربية، ثم وهو قائد عام للقوات المسلحة، ثم وهو مرشح لرئاسة الجمهورية، ثم بعد أن صار رئيساً للجمهورية وقائداً للبلاد.
أحياناً أتمنى ألا تتحقق رؤيته، برغم أن تلك الأمنية هى من قبيل دفن رأس تحت رمال، ثم أحادث نفسى وأحاورها كيف نتقى ما يحذر منه، قبل أن يمسك الشرر بالحطب ويشتعل الحريق، وتتصاعد الأدخنة تخنق الأنفس، وتمتد النيران تحيل كل شىء إلى خراب.
الخراب هو ما يحذر منه السيسى، فى وقت نحلم نحن وغيرنا باستقرار حادث وتنمية تزهر.
< < <
ألمح علامات دهشة على وجوه شباب أجانب حاضرين ومشاركين فى منتدى الشباب العالمى بشرم الشيخ، وهم يستمعون إلى مداخلات الرئيس السيسى، وأرى نظرات استغراب فى عيون ستيفان دى ميستورا المبعوث الدولى للأزمة السورية، وغسان سلامة المبعوث الدولى للأزمة الليبية، وهما يتابعان حديث الرئيس فى جلسة أمس الأول العامة الثالثة حول آليات بناء المجتمعات والدول فى مرحلة ما بعد الحروب والنزاعات.
من عنوان الجلسة، ندرك أن الحديث عن المستقبل، وكأن الحروب انتهت والنزاعات زالت والبناء قريب.
ومن كلام الرئيس نستشعر فرار أسراب طيور فى سماء المنطقة، دائما ما يسبق كوارث أقدار.
مبعث الدهشة هنا والاستغراب هناك، أن السيسى رئيس دولة ودولة كبيرة، وقادة الدول عادة نراهم يغلفون عباراتهم بدبلوماسية وانتقاء عبارات وأحيانا مواقف.
السيسى رجل صادق، يتحدث بانطلاق وبلا حرج، رجل مباشر فى مقصد كلامه ومبتغى أفعاله، لا يعرف مسارات ملتوية.
يمقت الكذب والكذابين، يراه ضعفاً، ويراهم بؤساء. هو لا يحب ضعف الأنفس ولا بؤس المواقف.
يتأمل السيسى ما جرى خلال ٤٠ عاماً مضت من أفغانستان إلى ليبيا ومن العراق إلى سوريا إلى اليمن وعبوراً للبحر إلى الصومال، ثم يتكلم.
خراب يعشش فى طرقات بلاد كانت تعبق بعطر النماء والعمران.
أنقاض دول تداعت دعائمها وانهارت مؤسساتها، ولم تعد إلى حيث كانت، فالذى راح يصعب - وقد يستحيل - أن يرجع.
< < <
فى حديث المساء المفتوح مع شباب العالم ليل الإثنين.. تحدث السيسى بقلب مفتوح وعقل قلق.. وباح بالذى يضنيه.
شاب من العراق سأله: ما الوسيلة السلمية لتغيير الحكومة، غير الانتخابات؟
كان مقصد السؤال واضحاً، ورد الرئيس سائلا الشاب واسمه عبدالله عن عمره، فقال له: ٢٤ عاماً. فعقب الرئيس قائلا: إذن أنت لم تر العراق. أنا رأيته فى عنفوانه، دولة يشار لها بالبنان، دولة قادرة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. لكن هناك من اقتادها واصطدم بها بالجدار.
شاب آخر من لبنان قال للرئيس: لا نعرف قدساً شرقية وأخرى غربية، فالقدس واحدة كعاصمة لفلسطين.
رد عليه الرئيس منبها إلى أن الشعارات التى تخاصم الواقع هى السبب فيما جرى لنا وضياع فرص كانت سانحة. ثم ابتسم وقال للشاب: «طيب بس خد القدس الشرقية!».
جوهر كلام الرئيس منذ صباح الإثنين وحتى ساعات الليل كان يدور حول محور إجابتيه على الشابين، وهو التحذير من رغبة فى التغيير من ورائها خراب محدق وحريق يشتعل، والتنبيه من انسياق وراء مواقف مبنية على غير قدرة وشعارات صادرة عن حناجر لا قلوب.
< < <
ليس صحيحاً أن الرئىس السيسى كان ضد التغيير أو هو ضد التغيير، سيما إذا كان يستهدف الأفضل ويصل إليه.
رأىى الشخصى المتواضع أن أفضل ما فى ثورة ٢٥ يناير ـ على سبيل المثال ـ أنها فتحت الطريق لنعرف رجلاً هو عبدالفتاح السيسى.
يحذر السيسى من التحرك غير المدروس، والنزول إلى الشارع فى دول بمنطقتنا العربية من جديد أو لأول مرة، بغرض تغيير غير محسوب تكلفته وبغرض مطالب غير معروف أبعادها.
ويقارن بين التكلفة التى دفعتها شعوب فى دول عربية من مالها واستقرارها بل وبقائها، وبين التكلفة التى كانت ستدفعها لو استمر الأمر دون تغيير حتى زال بفعل الزمن وعوامل التعرية السياسية.
ويقول إن الأولى أكبر بكثير من الثانية، وبكل وسائل الحساب، ويؤكد فى نفس الوقت أن ذلك ليس معناه هو الركون إلى السكوت، وقبول الواقع المهين، ورفض التغيير، إنما القصد هو اللجوء إلى العقل الجمعى الذى يرشد التحرك إلى حيث مبتغاه.
لا يستخدم السيسى تعبير «مؤامرة»، فى تفسير ما جرى للإقليم العربى منذ مطلع ٢٠١١ تحديداً، ويستبعد هذه الكلمة كوسيلة لإقناع شريحة ليست صغيرة من المستمعين المنصتين.
بكل وضوح وصفاء رؤية وحدة بصر وسداد بصيرة، يقول السيسى: إن قوة الشباب واندفاع تحركه قد يخرجان عن السيطرة، وينشئان فراغاً هائلا يؤدى إلى تدافع قوى خارجية للتدخل فى شئون الدولة، وتتحرك فى قلب الفراغ وسعياً لملئه، قوى داخل المجتمع تتصور أن لها الأولوية أو الأسبقية فى الحكم، بل لها الحق المقدس فى السلطة والتسلط، ويكون الشعار: إما نحكمكم أو نقتلكم، هذا الفراغ فى مجتمعاتنا العربية تسعى جماعات الإسلام السياسى لملئه وقيادة الدولة فى إطار فكرة مقدسة، كدولة دينية، ويحدث التدمير الذاتى للدولة ونتائجه هى خراب كارثى، لا أتصور أن تؤدى إليه حرب نظامية تقليدية.
< < <
«الانتحار» هو أداة الفرد اليائس للتخلص من حياته والذهاب إلى مصير خلود فى المجهول. و«الانتحار القومى» هو أداة مجتمعات وشعوب للخلاص من أحوالها ولو فوق جثة الأمة أو الدولة وعلى أنقاض ركائزها ومؤسساتها، دون إدراك لأن الخاتمة هى تشرذم الشعب وسقوط الدولة.
يحذر السيسى مجدداً من «الانتحار القومى»، كما سبق له أن حذر مجتمعاتنا العربية قبل عامين من نفس الخطر.
يقول السيسى: إن الدولة إذا راحت، لن تعود، على الأقل كما كانت. يوضح أن سوريا تحتاج ٣٠٠ مليار دولار على الأقل لإعادة الإعمار، وقد تصل التكلفة إلى ألف مليار دولار، ويؤكد أن أحداً لن يدفعنا فى عالمنا هذا الذى يتصارع ويتنصل من سداد بضع آحاد من المليارات.
عيون السيسى وهو يحذر الشباب وأبناء دولنا العربية من جنوح الرغبة فى التغيير، واتجاهها نحو تحرك غير مدروس ونزول غير مدرك لخاتمة، كانت تتجه شرقاً.
إجابة الرئيس على سؤال شاب من بلغاريا اسمه قسطنطين يستفسر عن أسباب دعم مصر للسعودية، كانت تفصح عن سبب تحذيراته وسر رائحة الدخان التى يشتمها فى أجواء المنطقة، حيث لا نرى حريقاً ولا نشاهد نيراناً.
قال الرئيس وهو يخاطب آخرين من دون الشاب الله يعلمهم: أليس يكفيكم عدم الاستقرار الذى حاق بالمنطقة؟!.. ألا تشعرون بالقلق إزاء امتداد الاضطراب الحاصل فى أفغانستان وسوريا وليبيا والصومال واليمن، إلى دول أخرى.
علينا أن نضع نصب أعيننا إيجاد حد أدنى من الاستقرار فى المنطقة.
وبقليل من الانفعال.. قال الرئيس: إننى أريد أن أحافظ على السعودية والإمارات والكويت والبحرين، وأيضا على قطر.
ولم يشأ الرئيس أن يقول: وأيضا قطر، برغم كل شىء حدث ويحدث من حكامها، فالغرض المصرى هو بقاء الدولة وصون حياة الشعب القطرى.
ثم يضيف الرئيس: إننى أريد أن أحافظ على المنطقة، فهى لا تتحمل أكثر مما حدث لها ولشعوبها.
< < <
لماذا مصر؟!
بعبارة أخرى.. كيف نجت مصر من مصير محتوم كان يراد لها، ولا أقول يدبر لها، ولماذا هى الناجية من أخدود الحريق الذى سقطت فيه دول المنطقة، ولماذا كانت النار برداً وسلاماً على شعبها؟!
يجيب الرئيس السيسى قائلا: هناك سببان.. أولهما قدرى هو إرادة الله، الذى شاء أن ينجى مصر من ذلك المصير، وثانيهما هو الجيش المصرى القوى، بل القوى جداً، وقوته ليس مبعثها قدرته العسكرية وحدها، بل قدرته الوطنية، فهو جيش غير مسيس وغير طائفى ولا مذهبى وغير عرقى، إنما هو جيش وطنى يستظل برايته المسيحى والمسلم، ويموت الاثنان من أجل مصر.. إنه جيش قوى جداً حمى الشعب وأنقذ الدولة.
ثالث السببين، هو وعى الشعب المصرى، الذى يرى الرئيس أنه سرعان ما تنبه واستوعب ما جرى فى أعقاب ٢٥ يناير، بدليل أنه لم يتحرك بعد إجراءات الإصلاح القاسية فى نوفمبر ٢٠١٦، بل أدرك أسباب ما حدث، وأخذ العبرة وتحمل وصبر ومازال يتحمل.
< < <
مجدداً يحذر الرئىس من اقتياد ما تبقى من دولنا إلى هاوية الخراب.
يقول إن مصر تستهلك فى كل شهر ما يعادل ٣٫٥ مليار دولار للوقود، فمن أين يعيش الناس إذن لو تغيرت الأحوال؟
ويشير الرئيس فى أكثر من مناسبة إلى مشكلة اللاجئين الذين يفرون من بلدانهم فى قوارب الموت، وإذا لم تبتلعهم مياه البحر، فهم يعانون فى معسكرات اللاجئين بدول المفر.
ثم يقول: ماذا سيكون عليه حال طفل أو طفلة يعيش فى معسكرات اللاجئين ٨ أو ٩ أو ١٠ سنوات، ماذا ستكون عليه شخصيته وقيمه وأخلاقه؟ إننا نحتاج إلى برامج إعمار نفسى وإنسانى شديدة الضخامة لهؤلاء الأطفال فى تلك المعسكرات، التى يتهددها مصير التحول إلى مراكز تفريخ للإرهاب.
ويشدد الرئيس أمام شباب العالم على الدعوة التى سبق له أن أطلقها، وها هو يجددها، بأن الحفاظ على الدول حق من حقوق الإنسان.
< < <
الحلم.. لعلها الكلمة الأكثر تداولا فى مداخلات السيسى أثناء يوم الإثنين الطويل المفعم بالصراحة والعامر برؤى بصيرة بعيدة المجال.
يدعو السيسى الشباب من مختلف دول العالم، بالأخص من أفريقيا التى تحمل مسئوليتها قبل أن يحين الأوان، إلى عدم فقدان القدرة إلى الحلم.
سئل السيسى على حلمه لمصر وعن أمله الشخصى.. كانت إجابته تقريبا واحدة.
يحلم الرئيس بتغيير واقع مصر العسير وأحوال شعبها الصعبة، ويعمل من أجل تحقيق هذا التغيير بالعمل والصبر والإنتاج.
خلال ١٨ شهراً، يأمل السيسى فى الانتهاء من كل مشروعات البنية الأساسية وتسليمها، يأمل أيضا فى الانتهاء من مشروعات أخرى يجرى تنفيذها للوفاء باحتياجات الشعب وتوفير فرص عمل لما بين ٨٠٠ ألف ومليون شاب وشابة يدخلون إلى سوق العمل فى كل عام.
ينام السيسى ويستيقظ على اسم مصر، من قبل أن يصبح رئيساً بسنوات طويلة.
ومازال مثلما عرفته من اليوم الأول، مهموماً ببلاده، ينظر إلى حيث ننظر لكنه يرى ما لا نرى.