حكايات| «جسر الموت».. كل موضع قدم «مُدمن»

مشهد من جسر الموت في العاصمة كابول
مشهد من جسر الموت في العاصمة كابول

المياه تجري من تحت أقدامهم، ولكنها لم تستطع أن تغسل القاذورات التي تحتل دمائهم قبل مرقدهم.. والرقاب متدلية من فوق الجسر وتحاصرهم نظرات تأرجحت بين العطف والاشمئزاز، لكن المؤكد أن الجميع في حضرة جسر الموت، أو مقبرة الموت، كما يطلق عليه الأفغانيون في العاصمة المظلمة كابول.

 

ففي ذلك الجسر لا يخلو موطأ قدم من مدمن، على مرأى ومسمع من الجميع، إذ يقدر عدد الوفيات فيه من المدمنين نتيجة الجرعات الزائدة من المخدرات بنحو 150 في كل شهر، بمعدل خمس وفيات يوميا.

 

الموت بتواطؤ حكومي
وذهب البعض إلى أن السلطات الأفغانية متواطئة وتغض الطرف عن المتعاطين والمروجين في تلك البقعة التي يحلق الموت فوقها منتظرا أن تقع ورقة أحدهم لحصدها وخطف روحه إن تبقى من تلك الأجساد روح، ولكن السلطات من جانبها تنفي ذلك، وتؤكد أنها تبذل جهودا مضنية في مواجهة هذه الظاهرة المدمرة.

 

أفغانستان التي تصدر نحو 90% من الإنتاج العالمي للمخدرات، يتجاوز عدد مدمنيها من المخدرات الثلاثة الملايين، لينطبق عليها المثل الشعبي الرائج في أوطاننا العربية: «طباخ السم بيدوقه»..

 

 

ظُلمة الحرب
البلد الذي عانى من الحرب على مدار 30 عاما، يبدو أنه لا يستطيع الخروج من باب الظلمة الذي وضع فيه مجبرا، حيث أنه منذ عام 1995 دمر 80 % من العاصمة بعد قتال دام 15 عاما، وقد عانت المدينة منذ ذلك الوقت 15 عاما أخرى من القتال.

 

وبعد أن كانت العاصمة الأفغانية تزدحم بمسلحي طالبان، الذين ينتشرون عند مفارق الطرق والدبابات الروسية والملتحين وأصحاب الجلابيب القصيرة والعمائم السوداء، يبدو أن سنوات الحرب لم تغادر الشباب الأفغان وتركت في نفوسهم آلام الظلم والكسرة، ولم يجدوا سبيلا للهروب سوى المخدرات، في ظل أن البعض يرجع اتجاه الكثير من الأفغان إلى تعاطي المخدرات إلى أن عقودا من أعمال العنف لعبت دورا كبيرا في ذلك.

 

أما المسؤولون الأفغان، يقولون إن العديد من الذين فروا من أعمال العنف خلال الثلاثين عاما الأخيرة لجئوا إلى إيران وباكستان، وسجل معهم معدلات الإدمان زيادة منذ فترة طويلة، وأنهم عادوا حاليا ومعهم مشكلاتهم المتعلقة بالمخدرات معهم.

 

الحرج الحكومي
على النقيض من تصريحات المسؤولين الأفغان، يقول مسؤول سابق بمجال مكافحة المخدرات لدى الحكومة الأفغانية هادي خالد: «إن غالبية التقارير الرسمية تتعمد التقليل من حجم المشكلة.. وأن هناك شعورا عميقا بالحرج حيال كيفية تفاقم معدلات الإدمان رغم تدفق مساعدات تنموية بمليارات الدولارات». 

 

ويضيف المسؤول سابق بمجال مكافحة المخدرات لدى الحكومة الأفغانية، أن: «هناك قرابة مليوني متعاط، وأن أفغانستان بها معدل إدمان أعلى من أي دولة أخرى سمع بها».

 

معدلات الإدمان مرتبطة بصورة كبيرة بالارتفاع الشديد في زراعات الأفيون بمختلف أرجاء أفغانستان، بجانب انتشار معامل معالجة الأفيون والتي تعمل على تحويله لهيروين، هذا ما أكده خبراء متخصصون في مكافحة الإرهاب، في سبب أخر حول اتجاه الأفغان للمخدرات.


هيروين طالبان
ربما ما ساهم في انتشار المخدرات في أفغانستان، حركة طالبان الإرهابية، وذلك وفق ما أفاد مسؤولون غربيون، لافتين إلى أن حركة طالبان باتت تسيطر اليوم بشكل واسع على إنتاج الهيروين في أفغانستان، والذي يمكنها من عائدات تقدر بمليارات الدولارات. ويشتبه المسؤولون بأن لدى الحركة مصانع خاصة لتحويل نبتة الخشخاش - التي تشكل نصف إجمالي الناتج الزراعي في أفغانستان - إلى مورفين وهيروين ومن ثم تقوم بتصديره.

 

وباتت حركة طالبان - التي منعت زراعة الخشخاش عندما حكمت أفغانستان - تسيطر الآن بشكل واسع على إنتاج الهيروين في البلد الذي تمزقه الحرب، ما يوفر للمتمردين مليارات الدولارات، بحسب مسؤولين.

 

ولطالما فرضت طالبان ضرائب على المزارعين الذين يزرعون الخشخاش لتمويل تمردها المستمر منذ سنوات، إلا أن المسؤولين الغربيين باتوا قلقين من أن الحركة المتطرفة تدير حاليا مصانع خاصة بها، حيث تحول المحصول المربح إلى مورفين وهيرويين ليتم تصديره.

 

أرقام مرعبة
تقديرات الأمم المتحدة تشير إلى أن 1 من كل 20 بالغا، تراوح أعمارهم بين 15 و64 عاما، تعاطوا مخدرا واحدا على الأقل في العام الماضي، ما يعني أكثر من ربع مليار شخص، تحديدا 247 مليونا، وهو رقم على ضخامته، لم يشهد زيادة ملحوظة خلال السنوات الأربع الماضية.

 

ويقدر عدد الوفيات المتصلة بالمخدرات بأكثر من 207 ألف حالة عام 2014، نصفها تقريبا بسبب الجرعات المفرطة. وبتحليل نوعية المخدرات الأكثر شيوعا في العالم، كان القنب في المركز الأول، إذ يقدر عدد متعاطيه 183 مليون شخص. وجاءت الأمفيتامينات Amphetamines في المركز الثاني، بينما المركز الثالث كان من نصيب المواد الأفيونية وأشباهها، الموصوفة طبيا، وعدد متعاطيها 33 مليون شخص.

 

إجمالا يصل حجم تجارة المخدرات في العالم إلى 800 مليار دولار سنوياً، أو 8% من حجم التجارة العالمية. وتصل العوائد المالية من الكوكايين وحده إلى 85 مليار دولار. وتخطى حجم تجارة المخدرات في الاتحاد الأوروبي عتبة الـ100 مليار دولار.

 

ودراسة سابقة توصلت  إلى أن أشباه الأفيون والكوكايين والمنشطات الأمفيتامينية والقنب، قطفت ما مجموعه 12 مليون عاما من العمر بسبب الوفاة المبكرة أو الإعاقة، منها ما يزيد عن 8 ملايين عاما من الاضطرابات الناجمة عن تعاطي أشباه الأفيون.

 

جسر الموت
في ظل هذه الأرقام المرعبة، المشاهد التي تخرج علينا من جسر الموت في العاصمة كابول، لا تترك مجالات للشك بأن هذا البلد، يغرق في الفساد الذي تفشى مع سنوات الحرب، ومع سيطرة حركات إرهابية على معظم أرجاءه في وقت من الأوقات، ومازالن الحرب دائرة لدحر تلك الجماعات حتى اللحظة، في ظل أن ضراوة الاشتباكات بين طالبان والقوات الأمنية الأفغانية تشتد في غزنة شرق أفغانستان بالتزامن مع تزايد الضغوط للبدء بمفاوضات سلام تنهي الحرب المستمرة هناك منذ 17 عاما.

 

ويبدو أن مشاهد مخيمات المدمنين في العراء ما تزال من الأمور المألوفة للكثير من سكان كابل، ويبدو أنها تجذب الانتباه أكثر من أي صورة أخرى من صور المعاناة، وذلك وسط صمت دولي وحكومي مطبق.. فهل نجد في الفترة المقبلة أي تحرك ولو على استحياء من منظمات دولية أو جهات حكومية أفغانية للتعاطي مع المعاناة التي تقبع تحت جسر الموت في العاصمة كابول؟ أم يستمر الصمت سيدا للموقف؟..