حكايات على ضفتي «المكس».. بسطاء يروون قصص ما قبل الرحيل

خليج المكس
خليج المكس

وجوه مصرية خالصة، طبعت الشمس سمارها على ملامحهم، ويقلّب «الموج» أحوالهم بين ساعة وأخرى، الفقر والمرض أنهك أجسادهم، رغم رائحة اليود المنعشة التي تفوح من جنبات مساكنهم البسيطة المزينة برسومات تروي قصص كفاح أناس عاشوا على أرض «المكس».    


هنا على جانبي خليج «فينيسيا الإسكندرية»، الذي يمثل نقطة التقاء البحر الأبيض المتوسط ببحيرة مريوط، تتراص أبنية تبوح بما في داخلها من حكايات يرويها صخب الأمواج المتلاطمة، قبل أيام من حزن جديد سيتولد حتما عندما تبقى خاوية بعد رحيل قاطنيها.

 

«بوابة أخبار اليوم» رصدت حياة عشرات الأسر القاطنة في منطقة خليج المكس، قبل أن يتم نقلهم إلى مساكنهم الجديدة التي شيدتها الدولة لانتشالهم من حياتهم التي لم تكن يوما كما يريدون، ولكن السنين حفرت بداخلهم ذكريات جعلتهم يحنون إليها، وبداخلهم تردد كبير، خشية الانتقال للعالم الجديد الذي لم يعتادوا عليه يوما.
 

 

صورة من خرائط جوجل للمكس

 

سردين المكس «لا يعلى عليه»

 

على طول الطريق بمنطقة المكس، ينتشر الباعة منذ الساعات الأولى للنهار لبيع ما جاد به البحر على الصيادين الذين يخرجون في ظلام الليل بحثا عن رزقهم.

 

«اتفضل يا باشا.. اشتري سمك.. سردين المكس لا يعلى عليه»، هذه العبارة ربما ستتردد على مسامعك ذهابا وإيابا بمجرد مرورك بالمنطقة، وما عليك إلا الانتظار لدقائق للبحث في المعروض لعلك تجد غايتك في الأصناف المتراصة على الطاولات.

 

يجلس محمد منصور، بجوار زميله الذي يقوم من حين لآخر برش المياه على الأسماك، أمام طاولة يتنوع عليها «رزق البحر»، بحثا عن زبون من بين المارة أو حتى من بين السيارات المتجهة إلى منطقة العجمي.

 

يقول «منصور»، إنه يعمل في هذا المكان منذ قرابة 40 عاما، وبالتحديد منذ أن خرج من الخدمة العسكرية، لافتا إلى أنه استطاع أن يعيش هو وأسرته ويزوج بناته الثلاثة من عمله في هذا المكان.

 

ويضيف الرجل، الذي يبدو تخطيه العقد السادس من عمره، وبدا عليه الإعياء الشديد نظرا لمعاناته من مشاكل في صمامات القلب، أنه يأتي للبيع هنا كل يوم عدا السبت الذي يفضل أن يكون موعد لراحته الأسبوعية.

 

«لي زبائني الخاصة.. تأتي إليّ من محافظات مختلفة لشراء الأسماك» بتلك الكلمات أنهى «منصور» حديثه، مبينا أنه لم يستطع العمل في هذه المهنة منذ أن كان جنديا مشاركا في الحرب.



بجواره «منصور»، وقف جابر شلبي الشهير بـ«البوري» ينادي على الزبائن في محاولة لصيد زبون يشتري منه بعض الأنواع من الأسماك المعروضة.

 

مستعرضا بعض الأنواع المتراصة على الطاولة، يوضح «جابر» أنه يعمل في مهنة بيع الأسماك منذ نعومة أظافره،  مضيفا: «الأسعار تختلف من وقت لآخر وحسب نوع السمكة نفسها».

 

الحاج خميس.. صيد السمك «غية»

 

بمجرد دخولك في الزقاق المؤدي إلى مساكن أهل المكس، لن تجد سوى رائحة الأسماك وبعض معدات الصيد المتراصة بعناية بجوار البيوت القديمة، التي يفصلها عن بعضها ممر ضيق لا يتعدى عرضه المتر الواحد، يلج منه الأهالي إلى مراكبهم ليبدأوا رحلة الصيد.

 

عشرات الشباب يتراصون على حافة الخليج، منهم من ينظف الغزل ويتسامرون، وآخرون ينظرون إلى منازلهم نظرة وداع للمكان الذي شهد صرخته الأولى إيذانا بخروجه للحياة، فما هي إلا أيام قليلة تفصلهم عن نقلهم لمساكنهم الجديدة التي لا تبعد كثيرا عن بيوتهم القديمة.

 

يجلس الحاج خميس، الذي نسجت مآسي الزمن وهمومه خيوطها على ملامحه، متخذا مقعدا بالقرب من المركب الخاص به، ليجهز عتاده انتظارا للحظة التحرك بحثا عن رزق أسرته التي أعياها الفقر والمرض.

 

يعمل «خميس» في مهنة الصيد منذ الصغر ولا يعرف سواها وسيلة لـ«قوت عياله»، لكنه يشكو الآن من صعوبة الإجراءات الأمنية التي تحظر عليهم الصيد في بعض الأوقات، الأمر الذي يكلفهم الكثير خاصة مع التكاليف الكبيرة لعملية الصيد نفسه، سواء في الغزل أو في وقود الفلوكة التي يخرج بها بحثا عن السردين.

 

«الحال بقى صعب وجوعنا».. هكذا لخص «خميس» معاناته بـ4 كلمات، مؤكدا أنه في بعض الأحيان يحرم أبنائه من الذهاب إلى المدرسة بسبب ضيق ذات اليد، مطالبا بالسماح لهم بالصيد في كل الأوقات حتى يتمكنوا من مواجهة الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي يمرون بها.

 

سيد خليل.. نسج الغزل «حرفة»

 

على حافة الخليج، افترش سيد خليل الأرض، محاطا بالغزل من كل اتجاه، وبمهارة فائقة يعكف العجوز السبعيني، على تشبيكها لسرعة الانتهاء منها وتسليمها للصيادين.
للوهلة الأولى تظن أن حرفة «خليل» من السهل إتقانها، ولكن عندما تدقق في يديه ستجد أن الأمر ليس بالسهولة التي تخيلتها.

 

«الغزل دا جاهز.. أنا بشبكه بس مش أكثر».. بهذه العبارة بدأ الرجل السبعيني حديثه، مشيرا إلى أنهم يصنعون الغزل ولكن زيادة تكاليف الصناعة التي وصلت معداتها إلى نحو 30 ألف جنيه حاليا، والأوضاع الاقتصادية الصعبة أثرت على كل شيء.

 

لا يقتصر عمل «خليل» على الغزل فقط، بل يمتهن الرجل الصيد كوسيلة لكسب الرزق، فلا يوجد أحد من أبناء خليج المكس، إلا ويخوض أمواج البحر بحثا عن رزقه، بحسب قوله.
الرجل السبعيني الذي يعول 4 فتيات، أصبح زاهدا في كل شيء، فالأحوال الاقتصادية الصعبة جعلته يبحث في أي شيء عن رزق، مطالبا المسؤولين بتسهيل عملية الصيد لأهالي المكس لأنه مصدر الرزق الوحيد لهم.

 

وحول انتقالهم للعيش في المساكن الجديدة، أوضح «خليل»: «الأماكن الجديدة جيدة.. ولكن ماذا أفعل أنا في معدات الصيد الخاصة بي»، متابعا: «قلنا للمسؤولين إننا لدينا مخازن هنا ويجب أن يوفروا لنا مخازن أيضا في المساكن الجديدة.. فمن غير المعقول أن أترك عدة الصيد والغزل هنا.. وأذهب للعيش في شقق جديدة.. فأنا هنا أنام بالقرب من معداتي ورزقي».